أول أسرتين مسيحيتين وصلتا الشرقية: التهديدات كانت تصلنا نهاراً.. وصوت الانفجارات ومشاهد الدماء تطاردنا
«عفاف» وبجوارها «رامى» زوج ابنتها الكبرى
صوت الانفجارات ورائحة البارود وتناثر الدماء.. مشاهد لا تزال عالقة فى ذهن «عفاف سليمان عوض»، فى بداية العقد السادس من عمرها، حيث كانت شاهدة على تهجير الآلاف من أهالى سيناء ومدن القناة إبان نكسة 1967، لتتجدد تلك الذكريات المؤلمة مع بدايات 2017، لتتجدد لحظات الألم والحزن، التى لازمتها منذ أن كانت طفلة، حتى بعد أن أصبحت جدة، وكغيرها من عشرات المسيحيين من أبناء مدينة العريش، اضطرت «عفاف»، وهى موظفة بالتربية والتعليم، إلى ترك بيتها وجيرانها وذكرياتها، خوفاً من أن تطال يد «الإرهاب الخسيس» أحد أفراد أسرتها، بعدما استهدفت عناصر التكفير والتخريب عدداً من أبناء ديانتها بالقتل والحرق والسرقة، فى إطار تصعيد عملياتهم الإجرامية ضد المدنيين.
«عفاف»: الإرهاب لم يعرف طريقه إلينا إلا بعد ثورة 25 يناير وزادت ضراوته عقب سقوط الإخوان
تحدثت السيدة السيناوية لـ«الوطن» عن الأسباب التى دفعتها إلى ترك بيتها فى العريش، والقدوم إلى محافظة الشرقية، فقالت: «بعد 30 سنة كاملة عشناها فى سلام وأمان، لم يعرف الإرهاب طريقه إلينا، إلا فى أعقاب ثورة 25 يناير، وازدادت ضراوته عقب سقوط نظام الإخوان»، وتابعت بقولها: «قبل ثورة 2011 كانت العريش مدينة سياحية من الدرجة الأولى، يأتى إليها الأجانب للتنزه من مختلف دول العالم، نظراً لموقعها المتميز، وما يسودها من هدوء وتوافر وسائل المواصلات والمساكن والفنادق وكافة مستلزمات المعيشة»، وأضافت أنه «عقب الثورة تبدل الحال رأساً على عقب، وازداد الأمر سوءاً بعد الإطاحة بنظام الإخوان، حتى أصبحت أصوات الانفجارات وطلقات الرصاص جزءاً من حياتنا اليومية، بعدما بدأت العناصر الإرهابية فى استهداف مؤسسات الجيش والشرطة ورجالها، وصولاً إلى استهداف الأقباط وإزهاق أرواحهم بأبشع طرق القتل والتنكيل دون رحمة أو هوادة».
وتابعت بقولها: «سنوات طويلة مرت على نكسة 67، نسيت خلالها ما مررت به برفقة أبى وأمى، عندما كنت طفلة، حينما أجبرتنا الحرب على التهجير، مثل الآلاف من الأسر، فقارب صغير يضم أعداداً كبيرة، كان وسيلتنا للعبور من القنطرة شرق إلى القنطرة غرب، وكثيرون تعرضوا للموت غرقاً، إلا أن الله كتب لنا النجاة حتى وصلنا إلى مدينة الزقازيق، وأقمنا بها حتى بلغت 19 عاماً، وتزوجت وانتقلت للإقامة بالعريش بصحبة زوجى»، وأشارت إلى أنها أنجبت 3 بنات، إحداهن حصلت على بكالوريوس تمريض، وتعمل موظفة بمديرية الصحة فى العريش ومتزوجة، والثانية حاصلة على بكالوريوس نظم ومعلومات وتعمل بإحدى المدارس الخاصة فى سيناء، والثالثة طالبة فى الثانوية العامة. وأضافت «عفاف» بنبرة غلب عليها الحزن: «كنا نعيش حياة هادئة ومنظمة، حتى بدأ الإرهابيون فى استهدافنا واحداً تلو الآخر، وزادت عمليات القتل خلال الـ10 أيام الأخيرة من شهر فبراير الماضى، ووصل عدد الضحايا إلى 8 مدنيين»، مشيرة إلى أن عناصر التنظيمات الظلامية استهدفوا أحد الضحايا أثناء وجوده فى السوق، وطبيباً أثناء وجوده فى صيدليته، ثم بدأوا فى اقتحام المنازل، لافتةً إلى أن من أبشع الجرائم التى ارتكبوها، قيامهم بقتل رجل مسن قعيد ونجله، وإشعال النيران فى المنزل، بعدما أخرجوا الزوجة حافية ترتدى ملابس المنزل فقط، ثم نهبوا بعض الأجهزة والأثاث قبل إضرامهم النيران بالمنزل.
وأكدت أن التهديدات كانت تصلهم جهاراً نهاراً، ومنها «إحنا عارفين عددكم وأسمائكم وعناوينكم بالتفصيل»، ما كان يثير المزيد من القلق والخوف فى قلوبنا، مشيرةً إلى أن خطيب إحدى بناتها كان يستقل سيارة أجرة «تاكسى» برفقة أحد أقاربه، وأثناء سيرهما فى الطريق، بدأ السائق يتجاذب أطراف الحديث معهما، وقال وسط الحديث: «احنا عارفين كل حاجة عنكم»، وذكر اسم خطيب ابنتها كاملاً ووظيفته ومكان عمله، وهو الأمر الذى أصابه بالقلق، فطلب من السائق التوقف قبل مكان إقامته بشارعين، إلا أن السائق لم يستجب له وكأنه لم يسمعه، وواصل طريقه حتى وصل إلى بيتهما، والتفت إليهما قائلاً: «ممكن تنزلوا هنا.. دا بيتكم»، وقالت إن هذا الموقف كان كافياً ليدفع خطيب ابنتها وأسرته للهجرة من العريش، والإقامة لدى أقاربهم بالقاهرة، كما كان دافعاً قوياً لها للتفكير بشكل جدى فى الانتقال بأسرتها من العريش، والعودة مرة أخرى إلى الشرقية.
واختتمت «عفاف» حديثها بقولها: «على الرغم من تعلقنا بالعريش، التى عشنا فيها سنوات طويلة، جمعتنا خلالها علاقات طيبة بالمسلمين، إلا أن قرارنا بالهجرة كان ضرورياً ولا مفر منه، حتى إننا تركنا ما لدينا من مفروشات وأثاث، ولم أنتظر حتى أنقل ابنتى إلى مدرسة بالشرقية، أو أتقدم بطلب نقل للتربية والتعليم بالشرقية، فما كان يهمنى هو الخروج من العريش سالمين»، لافتة إلى أنها تقيم حالياً مع ابنتيها فى منزل زوج ابنتها الكبرى.
أما «رامى سلامة»، 34 سنة، زوج الابنة الكبرى، فقال فى بداية حديثه لـ«الوطن»: «نحمد الله أننا وجدنا منزلاً نستطيع الإقامة فيه برفقة والدة زوجتى وشقيقتيها»، مؤكداً أن «الأوضاع فى العريش صعبة للغاية، وقواتنا المسلحة تحارب عدواً جباناً وخفياً، وليس عدواً معروفاً هويته أو مكانه»، وشدد على أن «الإرهاب لا يستهدف الأقباط وحسب، وإنما تلك محاولات لزرع الفتنة»، مشيراً إلى أنه قبل عدة أيام، استوقف عدد من الإرهابيين أوتوبيساً يقل عدداً من المعلمين، ووجهوا لهم تحذيراً بضرورة التزام الرجال بإطلاق اللحى وارتداء الجلباب، والتزام السيدات والفتيات بارتداء النقاب، وهددوهم بأن من سيخالف ذلك سيتم قتله، كما أشار إلى أنه منذ نحو أسبوعين، قام عدد من الإرهابيين، يستقلون سيارات ربع نقل، بالتوقف فى شارع «23 يوليو»، ووزعوا منشورات مدوناً عليها عبارات: «نحن منكم وإليكم، وعليكم عدم الاقتراب من أى كمين للجيش أو الشرطة أو التعامل معهم، ومن يخالف ذلك، فلا يلومن إلا نفسه».
وعن تأثير انتقاله من العريش إلى الشرقية على عمله قال: «أقمت فى العريش برفقة زوجتى وطفلنا يوسف، منذ 4 سنوات، حيث التحقت بالعمل فى إحدى الشركات الخاصة بعد حصولى على بكالوريوس سياحة وفنادق»، مشيراً إلى أنهم يعتزمون الإقامة فى مدينة الزقازيق بشكل دائم، وعدم العودة إلى العريش مرة أخرى، ومضى قائلاً: «أعتقد أن الأحوال بالعريش ستتحسن كثيراً، وسيقضى الجيش على الإرهاب، إلا أن الذكريات المؤلمة التى عشناها لن تمحى من ذاكرتنا، وستكون حائلاً يمنع عودتنا لها مرة أخرى».
وكان محافظ الشرقية، اللواء خالد سعيد، قد استقبل أسرتين مسيحيتين مقبلتين من مدينة العريش، لبدء إجراءات تسكينهما بمركز ومدينة الزقازيق، وإنهاء الإجراءات الخاصة بعملهم فى المدينة، وإلحاق أبنائهم من الطلاب بالمدارس، لاستكمال الفصل الدراسى الثانى.