تلوث مياه النيل يقضى على أرزاق الصيادين فى الغربية
أحد الصيادين يتحدث مع محرر «الوطن»
فى وسط النيل يجلس على قاربه فى إحدى قرى كفر الزيات بمحافظة الغربية، ممسكاً بيده شبكة لصيد الأسماك يُنظّفها مما بها من حجارة وزجاجات مياه فارغة، ينتهى من تنظيفها ويأمر ابنه الذى يمسك فى يديه «القدافات» (قطعتان من الخشب يتم تثبيتهما فى جانبى المركب للتحكم فيه ودفعه للسير فى المياه)، بأن يبتعد عن هذا المكان الملىء بالقمامة. ينصاع الصبى الذى لم يتجاوز الـ13 عاماً لأمر والده، وينطلق بالقارب بعيداً فى وسط النيل، يتوقف الصبى، ويلقى والده بالشبكة مرة أخرى فى مياه النيل، على أمل أن يتبدّل الحال ويرزق ببضع سمكات يقتات بها هو وأولاده، لكن يظل الحال على ما هو عليه، فتخرج الشبكة محمّلة بالزجاجات الفارغة، والحجارة وبعض السمكات الصغيرة التى نجت من الموت بسبب التلوث الذى يملأ المياه.
«الوطن» رصدت معاناة «الحاج سعيد»، صاحب الخمسين عاماً، الذى أفنى أكثر من أربعين عاماً من عمره فى العمل صياد سمك فى نهر النيل، قائلاً: «مابقتش عارف أصطاد سمك من النيل زى زمان، الناس هنا بترمى الزبالة فى النيل، وتعمل صرف صحى فى النيل، السمك بيطلع ميت أساساً من كتر التلوث، ولو طلعت سمكة عايشة شكلها بيكون مختلف، وتحس أنها مريضة».
«سعيد»: «مابقتش باصطاد غير زجاجات مياه فاضية وحجارة.. والسمك مابقاش موجود»
يصمت الرجل وينظر فى ذهول إلى اتساع النيل ومياهه التى تغيّر لونها من اللون الأزرق إلى اللون القريب من الأسود، ثم يتابع حديثه: «زمان، ومش من زمان قوى يعنى، من حوالى 15 سنة ويمكن أكتر شوية، كنت كل يوم بانزل أصطاد ساعتين بس الساعتين دول كان ربنا بيكرمنى بأكتر من 50 كيلو سمك، السمك ده أنواع كتير زى البورى والبلطى، وأروح أبيعهم وآخد لعيالى أكلهم وأكون سلطان زمانى، النهارده الحال اتغير والدنيا بقت صعبة جداً، طول اليوم أصطاد سمك ماباكملش 10 كيلو، ابنى اللى قدامك ده ساب المدرسة علشان يساعدنى ويشتغل معايا فى الصيد، لأن الحياة بقت غالية وطبعاً مش عارفين نعيش، لكن للأسف النيل بقى كله ملوث ومابقاش فيه سمك زى زمان، أنا ساعات كتير باحس أن الشبكة بتاعتى مخرومة من كتر ما أنا بارميها وبتطلع فاضية».
الألم والحزن يملأ وجه الرجل الخمسينى، فالأيام تبدّلت والأحوال تغيّرت، فى الماضى كان الرجل يتجول بحرية داخل النيل، يذهب حيث يشاء ويرمى شبكته فى المكان الموجود به رزقه، لكن هذا الحال أصبح مستحيلاً بعد أن سيطر على النيل مجموعة من البلطجية، وقاموا بتقسيم النهر فى ما بينهم، كل واحد يحصل على مسافة معينة من النيل يجبر الصيادين على عدم الخروج منها، ليس هذا فحسب، وإنما ألزمهم باقتسام ما يصطادونه، فى غياب تمام من الحكومة التى تركت البلطجية يرتعون فى النيل حيث يشاءون، يمنعون هذا ويعطون ذاك، ومن يخالفهم الأمر إما أن يلقنوه درساً قاسياً من خلال منعه من الصيد مدة معينة، وإما أن يقطعوا رجله تماماً من النيل.
فيقول الرجل: «البلطجية أصبحوا هما اللى بيتحكموا فى النيل دلوقتى، قسّموا النيل بينهم وبين بعض، والصياد اللى بيتعدى المكان اللى هما متفقين عليه بيضروه، وممكن كمان يمنعوه من الصيد خالص».
ويتابع الرجل: «دائماً بيقولوا إن الصيد بيعلم الصبر، وأنا زمان كنت عارف معناها، لأنى فعلاً ماكنتش حاسس بحاجة وكان الرزق كتير، لكن النهارده الواحد مابقاش عنده أى صبر، العيشة بقت غالية، وكل حاجة سعرها فى الطالع، ومفيش حاجة بترخص غير البنى آدم هو اللى رخيص، ربنا سبحانه وتعالى اللى مصبرنا على اللى إحنا فيه ده».
ويضيف «عم سعيد»: «وانا اسمى سعيد، بس والله أنا مش سعيد خالص، مش سعيد بسبب المياه اللى بقت كلها زبالة وصرف صحى، مش سعيد لأن النيل مابقاش زى زمان، أنا كنت باشرب منه، دلوقتى خلاص البلد كلها بقت بتستخدمه كصرف صحى، بيقولوا إن فيه مصرف صرف صحى جاى من مصر ويتم صرفه فى النيل».
لم يكن حال «عم سعيد» الذى أكد أكثر من مرة أنه غير سيعد أفضل من زميله الجالس أيضاً فى قاربه، لكن هذه المرة بجوار شط النيل، تملكه اليأس والإحباط وأصبحت أيامه شبيهة ببعضها، فكل يوم يستيقظ من نومه عقب أذان الفجر يستقل دراجته البخارية ليصل بها إلى شط النهر، يُحضر شبكته وقاربه ويبدأ فى الصيد، فينتهى اليوم ومعه كمية أسماك لا تزيد على الـ5 كيلو، وإذا كان الحظ رفيقاً به سيتضاعف الرزق إلى 10 كيلو أسماك، وبألم شديد وحزن عميق يتحدث أحمد هانى، صاحب الثلاثين عاماً، معنا قائلاً: «أيامى كلها شبه بعضها، بقالى أكتر من 20 سنة من وانا عندى 10 سنين باشتغل صياد، زمان كان الصيد ده فعلاً شغلانة، لكن النهارده بقى صعب الاعتماد عليه، لأن السمك قل قوى فى النيل، والزبالة مالياه فى كل حتة».
ويتابع: «تعرف لو الحجارة والزجاج الفاضى اللى باصطاده من النيل كل يوم ده بيطلع سمك كنت زمانى دلوقتى أغنى واحد فى البلد دى، لكن للأسف السمك طفش من عمايل الناس فيه، النيل كله بقى زبالة وحاجة صعبة».
يتذكر «هانى» طفولته التى قضاها فى رحاب النيل، حيث اللعب واللهو والاستحمام فى النيل: «يااااه كانت أيام عمرها ما هتتعوض تانى، كنا بنلعب ونستحمى فى النيل كل يوم، لكن النهارده مابقاش فيه الكلام ده، أنا أساساً مستغرب الناس اللى بتغسل المواعين فى النيل، المياه مش نظيفة خالص، لكن عندهم حق، هما ماعندهمش أى وسيلة يصرفوا فيها المياه غير النيل».
ويؤكد «هانى» أن رغبته فى الزواج أصبحت معدومة، لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف له أن يصبح مسئولاً عن أسرة وبيت: «أنا بقى عندى 30 سنة، ولسه ماتجوزتش، خلاص أساساً موضوع الزواج ده شيلته من دماغى خالص، هاتجوز ليه وانا أساساً عايش بالعافية، ماليش شغلانة غير الصيد والبحر طبعاً بقى مافيهوش سمك، ماينفعش أظلم البنت اللى هاتجوزها معايا، الحياة فعلاً بقت صعبة ومش مستحملة، ده أنا يادوبك عايش بالعافية».
ويضيف: «أنا عايش مع أبويا فى بيته ويادوبك البيت سايعنى أنا واخواتى، يبقى هاتجوز وأعيش فين والإيجار كل شهر هنا مش أقل من 400 جنيه».
انتهى «هانى» من كلامه وتركنا، ليؤكد فى نهاية الأمر أن هناك عدداً كبيراً من وسائل الإعلام جاءت إلى هنا ورصدت التعديات على النيل، لكن دون أن يتحرك أى مسئول فى البلد.