إيريك تريجر.. صعوبة قراءة الرئيس المصرى
الملك سلمان بن عبدالعزيز
لم يفوت الباحث الأمريكى إيريك تريجر المشهد الراهن فى العلاقات المصرية - السعودية.. فلم يجعله يمر دون الاشتباك معه وتوظيفه لرؤية محدّدة مرّر من خلالها رسائل تُشكل قناعته تجاه مصر وتجاه ثورة يونيو التى لا يعترف بها حتى الآن.
ونشر إيريك تريجر ورقة بحثية تحت عنوان «نمط مألوف فى الخلاف بين مصر والسعودية».
وقال «تريجر»، حسب نص الورقة: قد يلمس المراقبون المهتمون بالسياسة الخارجية الأمريكية نمطاً مألوفاً فى التوترات التى طبعت مؤخراً العلاقات بين مصر والمملكة العربية السعودية حين أعربت مصر عن تأييدها قراراً روسياً بشأن سوريا فى مجلس الأمن الدولى، فأثارت بذلك غضب المملكة العربية السعودية إلى حدٍّ دفع السفير السعودى فى الأمم المتحدة إلى انتقاد التصويت المصرى علناً. فالسعودية تعارض المساعى التى تبذلها روسيا لدعم الرئيس السورى بشار الأسد، وقد فضّلت عليها قراراً فرنسياً منافساً يسعى إلى وقف القصف الروسى على حلب.
صفقات الأسلحة مع «موسكو».. وقرض بقيمة 25 مليار دولار لإنشاء محطة الضبعة النووية.. والتدريبات العسكرية المشتركة تدل على قوة العلاقة بين مصر وروسيا
■ وهنا تجد أن إيريك تريجر تجاهل أن مصر صوتت أيضاً للقرار الفرنسى، وتجاهل التوضيح المصرى حول هذا الموقف، الذى كان ملخصه أنها مع أى عمل دولى يوقف نزيف الدم فى سوريا، بغض النظر عن الدولة التى قدّمت القرار، أنها كانت تصوت وهى تعلم أن القرارات لن ترى النور بسبب غياب الإرادة الدولية.
ويستمر «تريجر» قائلاً: قدّمت السعودية أيضاً مساعدات كبيرة إلى مصر لكى تستطيع الوقوف على قدميها، لا سيما فى السنوات الأخيرة. فبعد إسقاط أول رئيس مصرى منتخب وأحد قادة «الإخوان المسلمين»، محمد مرسى، فى يوليو 2013، سارعت «الرياض» إلى منح «القاهرة» 5 مليارات دولار، ثم تعهّدت بتقديم 4 مليارات دولار إضافية فى مارس 2015، وبعد ذلك وقّع الملك سلمان بن عبدالعزيز فى أبريل اتفاقيات بلغت قيمتها 25 مليار دولار.
■ وهنا تجاهل إيريك تريجر -متعمداً- أن الإطاحة بـ«مرسى» تمت من خلال ثورة شعبية، وهى ثورة 30 يونيو، وأن الجيش المصرى كان على عهده، وهو الانحياز لإرادة الشعب، وتجاهل أيضاً أن أول رئيس منتخب كان الرئيس الأسبق مبارك بغض النظر عن توصيف الانتخابات التى جرت حينها، لكن الواقع يقول إنه كان منتخباً، ثم تجاهل الواقع الحقيقى فى مصر، وهو أن الرئيس السيسى جاء بانتخابات شهد الغرب بنزاهتها، وأن «السيسى» حصد دعماً شعبياً مهولاً فى هذه الانتخابات ليس له سابقة مشابهة فى التاريخ السياسى المصرى، وربما من الصعب تكراره.
ويكمل إيريك تريجر حديثه قائلاً: بيد أن هذا الدعم [الاقتصادى] لمصر خلال مرحلة ما بعد «مرسى» يعكس المخاوف السعودية من المطامع الإقليمية لـ«الإخوان المسلمين»، وكذلك اعتقاد السعودية أن استقرار مصر قد يُعزّز الدفاعات السعودية بوجه إيران ووكلائها. وبدا أن الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى قد قَبِل بهذه الصفقة الضمنية، حيث قال للملك سلمان فى مارس 2015، إن مصر تعتبر أمن دول الخليج العربية «خطاً أحمر».
لكن من وجهة نظر المسئولين فى «الرياض»، لم يفِ الرئيس السيسى بالتزاماته فى هذه الصفقة، فقد رفض إرسال جيوشه لمساندة السعودية فى عملياتها ضد الحوثيين المدعومين من إيران فى اليمن، كما رفض المطالب السعودية بالتدخّل العسكرى فى سوريا.
■ وفى هذه السطور تعمّد «تريجر» خلط الأوراق، إذ موقف مصر تجاه أمن منطقة الخليج العربى، وتأكيد ارتباطه بالأمن القومى المصرى، هو موقف أصيل للدولة المصرية وعبّرت عنه وما زالت، واستقر منذ حرب الخليج الثانية، والاستثناء الوحيد كان فى عهد «الإخوان» عندما هدّد أحد قياداتها، وهو عصام العريان الخليج بإيران.
■ الأمر الثانى، الذى يغيب عن الباحث المتخصص فى الشأن المصرى، أن القوات المسلحة المصرية قوات نظامية، وليست ميليشيات من المرتزقة، كى يتم دفعهم وفق صفقات، والأمر الأهم أن رئيس مصر هو رئيس أكبر دولة عربية، وليس قائد ميليشيا، وتقديرات المشاركة فى أى عمل عسكرى تكون مرهونة بتبعات هذه المشاركة على الأمن القومى المصرى ومنظومة الأمن الإقليمى العربى.
ويستمر إيريك تريجر فى حديثه قائلاً: خلال الزيارة التى قام بها الملك سلمان فى أبريل، حاولت الحكومة المصرية تسوية الخلافات عبر الاعتراف بسيادة السعودية على جزيرتين فى البحر الأحمر كانتا قد خضعتا للإدارة المصرية منذ عام 1982. ومع ذلك، ماطلت المحاكم المصرية فى تسليمهما.
■ وهنا، علينا أن نرد عليه بأن سطوره تعكس تخريفاً حقيقياً وقراءة بالغة السطحية لا تخرج من باحث متخصص، وذلك لأن «القاهرة» و«الرياض» قررا ترسيم الحدود البحرية بينهما، وهذا العمل بدأ منذ أكثر من عام فى شكل لجان فنية.. هذه اللجان أنتجت اتفاقاً مبدئياً بترسيم الحدود وفق نقاط معينة.. ولأن مصر دولة لها دستور، ولها برلمان، ولها قضاء، فإن مثل هذه الأمور لها سياق يتبع داخل الدولة، ورئيس مصر أعلن حينها أن المسألة فى عهدة البرلمان، يبحث ويُدقّق قبل أن يُصدّق على الاتفاق.. كما أن القضاء المصرى مستقل، ولا سلطة عليه من أحد، ولو كانت هناك إرادة للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية أو تدخلاً من نوع ما، لكان انعكس ذلك على محاكمات عناصر جماعة الإخوان الإرهابية الذين يشكلون خصما وجوديا للشعب الذى قام بثورة عليهم وعلى فكرهم الإرهابى المتطرف.
ويكمل إيريك تريجر ورقته البحثية قائلاً: إن التصويت الذى جرى فى الأمم المتحدة سلط الضوء على التباين فى وجهتَى النظر المصرية والسعودية تجاه الصراع السورى. فـ«الرياض» تتخوف من أن يؤدى صمود الأسد إلى توطيد قوة خصمها الرئيسى إيران، بينما تتخوف «القاهرة» من التنظيمات الإسلامية السنية الأشد انخراطاً فى القتال ضد «الأسد»، انطلاقاً من حذرها من معاركها الخاصة ضد التنظيمات الإسلامية. وكانت «القاهرة» صريحة بشأن هذا التباين فى وجهات النظر الاستراتيجية، إذ قال وزير خارجيتها سامح شكرى بعد لقائه مع نظيره الإيرانى خلال سبتمبر الماضى: إنّ «التحالف الذى يخوض الحرب فى سوريا قد يرغب فى تغيير النظام فى البلاد، لكن هذا ليس موقف مصر».
وقد بدا «السيسى» مهتماً بتحسين العلاقات مع السعودية. فقد شكر «الرياض» على دعمها، وقال إن الخلافات حول سوريا يجب ألا تقوض الشراكة الأوسع. ودعا أيضاً إلى تسليم شحنة النفط المدعومة التى كانت شركة النفط الوطنية «أرامكو السعودية» قد أوقفتها فى أعقاب التصويت [المصرى] فى الأمم المتحدة. واستضاف مسئولون مصريون رئيس المخابرات السورية لإجراء محادثات. وأفادت وكالة الأنباء الرسمية السورية باتفاق الطرفين على «تعزيز التنسيق فى مجال مكافحة الإرهاب».
ولم يخضع «السيسى» لداعمه [الأهم]، لأنه يعلم أن السعودية تعتبر مصر ضرورية لمصالحها الإقليمية الخاصة. وهنا قد يلاحظ المراقبون للأوضاع المصرية فى واشنطن وجود نمط معين فى هذا الإطار: فرغم المساعدات العسكرية التى تقدمها الولايات المتحدة سنوياً إلى مصر بقيمة 1.3 مليار دولار، فإن العلاقات الثنائية لم تكن بمنأى عن التدهور بسبب الخلافات السياسية.
وفى غضون ذلك، عمد الزعيم القوى فى مصر إلى توطيد شراكته مع الزعيم الروسى القوى فلاديمير بوتين، حيث أبرمت «القاهرة» صفقة أسلحة مع موسكو بقيمة 3.5 مليار دولار فى سبتمبر 2014. وفى مايو تم الإعلان عن قرض روسى بقيمة 25 مليار دولار لإنشاء محطة للطاقة النووية فى مصر. وستستضيف «القاهرة» هذا الشهر تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا.
وكما هو الحال مع نهجها تجاه سوريا، يعكس تقارب حكومة «السيسى» من روسيا التقاء المصالح ضد التنظيمات الإسلامية السنية. وبقدر ما يفعل مع السعودية، لا ينفك الرئيس السيسى يُشدد على رغبته فى تقوية العلاقة الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة، بينما يتعاون بشكل أعمق مع الخصم الرئيسى لواشنطن.
وحتى الآن، نجح «السيسى» فى رهانه بالإفلات من عواقب هذا التصرّف دون خسارة المساعدات الأجنبية. إلا أن تعليق المملكة العربية السعودية للمساعدات النفطية، بالإضافة إلى قرار واشنطن بتحويل مبلغ يزيد على 100 مليون دولار كان مخصصاً لمصر إلى دول أخرى، يوحى بأن التغييرات قد تكون قيد التنفيذ.
■ إلى هنا، اختتم إيريك تريجر رؤيته التى تعكس أنه ما زال بعيداً عن حقيقة المشهد فى مصر.. ظهر واضحاً أنه متحير فى قراءة القيادة السياسية المصرية ومواقفها الدبلوماسية ونطاق حركتها الخارجية مع أن المسألة فى غاية الوضوح وأعلنها الرئيس المصرى فى أكثر من محفل، بما فى ذلك الحوارات التى أجراها مع الإعلام الأمريكى، وهو أنه يتبع سياسة خارجية متزنة عنوانها الحاكم هو استقلال القرار الوطنى، منفتحة على الجميع، ترى فى الأمن القومى للخليج ارتباطاً حقيقياً بالأمن القومى المصرى وتعتبر شراكة مصر مع القوى المؤثرة عالمياً، سواء الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبى أمراً طبيعياً يعكس شخصية مصر الإقليمية وتعمل على إعادة العلاقات مع واشنطن إلى طبيعتها الاستراتيجية، لأن فى ذلك مصلحة للجانبين.. كما أن ربط موقف سعودى بقرار الإدارة الأمريكية يعكس قدراً كبيراً من السطحية وعدم الإلمام الكافى بأدبيات العلاقات الدولية ويناقض التحليل نفسه الذى قدّمه «إيريك» لأن المملكة الشقيقة قدّمت الدعم لمصر عندما علقت واشنطن المساعدات، وقرار الإدارة الأخير يمثل فصل الختام بين «أوباما» و«القاهرة»، وليس بين مصر والولايات المتحدة.