نعيش هذه الأيام أجواء ذكرى عاشوراء، ومعها نحيا ذكرى استشهاد الحسين بن على، رضى الله عنهما بكربلاء، ذبحاً على يد جنود يزيد بن معاوية. الحسين كان نموذجاً للشخصية المثالية التى تتحرك فى الحياة بالقيم والمثل أكثر مما تتحرك بالحسابات، خلافاً لأخيه الحسن الذى تنازل عن الخلافة لمعاوية حتى يحقن دماء المسلمين التى سالت بحوراً بين معسكر أهل بيت النبى، والمعسكر المنحاز للبيت الأموى، تحمل الحسن بعد قرار التنازل الكثير من اللوم من المحيطين به، بمن فيهم أخوه الحسين، وبلغ الأمر بالبعض نعت الحسن بـ«مذل المسلمين»، لكن الرجل صبر واحتمل وأصر على موقفه.
المتأمل لشخصية الحسين يجد أن الرجل لم يكن يتوقف كثيراً أمام مسألة الحسابات السياسية، أو يلتفت إلى موازين القوى فى الصراع بينه وبين خصمه. عندما قرر الاستجابة لأهل العراق الذين دعوه إلى المجىء إليهم لمبايعته خليفة للمسلمين، نصحه الكثيرون وحذروه من الرحلة الدامية، ارتكز هؤلاء فى نصحهم على حسابات دقيقة إلى تقلب مزاج من دعوه، وإلى سطوة القوة الجامحة التى كانت تستند إليها الدولة الأموية، وإلى إصرار «يزيد» على التمسك بالحكم، مهما تكلف من دماء، وبناءً على ذلك تشاءموا من مسألة خروج الحسين إلى أهل العراق، وصرخ به أحدهم واصفاً من دعوه بقوله: «هؤلاء قوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك». كان الحسين رجل قيم ومثل ومبادئ، وهذا النوع من البشر يجد طريقه بسهولة إلى قلوب الناس، لكنهم ساعة الجد ينحازون إلى من يمتلك أدوات القوة، لذلك تجد أن أهل العراق ورثوا حسرة كبيرة فى قلوبهم على خذلانهم له، لكن ذلك لم يمنعهم من طاعة يزيد الذى يمتلك السيف، وقادر على إعماله فى رقابهم وقتما يقرر!.
لم يستمع الحسين إلى نصح الناصحين الذين طلبوا منه أن يحسب الأمر بعقله، وينظر فى النتائج المتوقعة، قبل أن يتخذ الخطوة، لكنه رفض لأن الرجل كان يتحرك بقلبه الذى أوجعه حالة الاستبداد التى سادت حياة المسلمين بعد التحول من نظام الخلافة الراشدة إلى نظام الملك «العضوض»، وشهد بعينيه كيف أن معاوية رضى الله عنه انتزع البيعة لولده والسيف على رقاب العباد، فلم يرتح إلى هذا الأمر وثار من أجل تغييره. وضع ما شئت من خطوط تحت كلمة ثار، لأنها تعبر بشكل دقيق عن شخصية الحسين، فقد كان شخصية ثائرة أكثر منه شخصية سياسية، كان الغضب لدينه يصرفه عن أية حسابات عقلية. ولو أنك تأملت تلك العبارات التى رددها وهو يقف وحيداً على رأس خيمته، بعد أن انفض الناس من حوله لعرفت سر هذه الشخصية. قال الحسين: «الناس عبيد الدنيا.. والدين لعق على ألسنتهم.. يدارونه ما دارت معايشهم.. فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون».
عبارة مؤثرة بإمكانها أن تخترق القلب، لكن العقل يقول إن تلك هى الحياة وهؤلاء هم البشر. والدليل على ذلك أن الدولة الأموية التى ثار الحسين ضدها قدمت للإسلام خدمات جليلة، واستطاعت نشره فى أصقاع الأرض، فى حين بقى دم الحسين وقوداً يحرك من تتملكهم فكرة الثورة. مات الحسين ويزيد، لكن الصراع بين أحفادهما ما زال قائماً، ويبدو أنه سيظل طويلاً!.