اجتماع المجلس العسكرى والأحزاب: الإخوان طلبوا 51٪ من «تأسيسية الدستور».. فهددت بالانسحاب
«مرسى» أثناء منح المشير «طنطاوى» قلادة النيل
وأخيراً.. يبدو أن المشير طنطاوى قرر أن يتدخل فى الأمر بنفسه، فجمع رؤساء الأحزاب ذات التمثيل فى البرلمان الذى كان، ليناقش معهم كيفية تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور الجديد، لكن أسماء أخرى أضيفت بما يوحى أن ثمة مشاورات سبقت الاجتماع، مثلاً مصطفى بكرى ومحمد عبدالمنعم الصاوى ورئيس حزب العدل وأحزاب أخرى صغيرة ليست لها تمثيل فى أى برلمان أو وجود فى أى مجال.
د. رفعت السعيد يكشف: كواليس إسقاط «مبارك ومرسى»
وكان ترتيب طاولة الاجتماعات متقناً ومنحازاً فى نفس الوقت، فالطاولة مستطيلة فى ضلعها الأطول فى منتصفه بالضبط المشير، وعلى الجانبين الحضور من لواءات المجلس العسكرى، والضلع المقابل فى منتصفه، أى أمام المشير، أجلسنى رجل البروتوكول باعتبارى رئيس أقدم الأحزاب الموجودة، وعلى يسارى، وهنا يتجلى الانحياز، محمد مرسى وإخوانى آخر، ثم إلى يساره الدكتور يونس مخيون، «حزب النور»، وكان الانحياز واضحاً ومسكوتاً عنه، فالإخوان وحدهم لهم ممثلان والباقون ممثل واحد، والإخوان وحدهم يتبادلون الحضور، كانوا أربعة يحضر منهم اثنان وفق الترتيبات الإخوانية غير المرئية، الدكتور مرسى والدكتور عصام العريان - إبراهيم حسين - ورابع يتغير، وبالنسبة للجميع لا يجوز أن يحضر أى بديل لرئيس أى من الأحزاب، ولكن بالنسبة للإخوان كان ذلك مسموحاً به.
فى اللحظة الأولى للاجتماع الأول وقبل أن يدخل المشير، مال رجل البروتوكول على أذنى هامساً: «إذا حضرتك مش عايز تقعد جنب الدكتور مرسى ممكن نغير الأماكن»، فقلت بصوت مسموع من مرسى ومن غيره: «خليه جنبى علشان لما يلخبط أزغده بكوعى وأسكته»، اتخض مرسى وصاح «أعوذ بالله».
كانت أحاديث الإخوان مجموعة من المماطلات التى تحمل قدراً عالياً من التعالى، لكن فى الطرف البعيد من الطاولة كان هناك من يصوغ طلبات، أو طموحات، أو مزاعم الإخوان بصورة أكثر إتقاناً، ويقدم الأوهام الإخوانية بصورة شيك، هو الأستاذ محمد عبدالمنعم الصاوى، وذات إحدى الاستراحات همس فى أذنى لواء من الحضور مشيراً برأسه نحو الصاوى «هو إخوانى بس ذكى، ولهذا هو كائن نادر».
«مرسى» سبق الجميع وبدأ يأكل.. ولأول مرة أرى إنساناً «متخرج من أمريكا» يأكل بيديه الاثنتين ويلحس أصابعه بعد تقشير الجمبرى
وذات يوم وفيما يجلس المشير.. وفى لحظة الجلوس صاح الدكتور مخيون: «يا سيادة المشير أنا عايز أتكلم»، التفت إليه المشير دون أن يرد، ثم بعد أن جلس واستراح وتأمل الحضور كعادته وأطلق تحية صباحية كعادته أيضاً، نظر إلى الوجه المحتقن للدكتور مخيون وقال بهدوء «اتفضل» وهنا انفجر الدكتور مخيون وهو يشير نحوى: «يا سيادة المشير الدكتور رفعت فى حوار تليفزيونى على الهواء هاجم أمس حزب النور وكانت التهمة أننا ذوو مرجعية إسلامية بينما هو يرأس حزباً مرجعيته شيوعية فهل هذا لائق؟»، وبابتسامة مستريحة على وجه هادئ قال المشير: «اتفضل»، وجلس مخيون وهو ينتفض، وأشار المشير نحوى: «اتفضل»،
فقلت: «أولاً» أنا عايز أصحح حاجات.. أنا رئيس حزب التجمع وحزب التجمع مش شيوعى ولا ماركسى لكن علشان أغيظ الدكتور مخيون أنا مرجعيتى ماركسية، وأنا ماقلتش حزب النور مرجعيته إسلامية، ولكن قلت حزب النور مرجعيته متأسلمة، والتأسلم فى نظرى هو فهم مشوه وغير صحيح للإسلام، وعلى أى حال إذا قلت أنا مرجعيتى ماركسية ممكن مخيون يقول ببساطة فى ستين داهية انت وماركس بتاعك، ولكن إذا قال هو «أنا مرجعيتى إسلامية» هل أستطيع أن أرد عليه بأى هجوم أو انتقاد؟ هو يتمسح بالإسلام لتكتسب أفكاره وطموحاته وممارساته سمة غير صحيحة؟
ارتاحت الابتسامة على وجه المشير وسأل مخيون عندك رد؟ ولم يرد مخيون على السؤال.
وفى كثير من الأحيان كان مرسى يتبدى مرتبكاً ولا يجد إجابات عن أسباب مراوغاتهم، وسعيهم فى استطالة الجلسات، وكان هناك ضغط من المشير، فطلب مرسى من المشير مهلة يومين للتشاور مع الإخوة، وبعد المهلة بدأت الجلسة، وقال المشير «اتفضلوا»، وهكذا كان يسأل عمن يريد أن يدلى برأيه، فقلت: «د. مرسى طلب مهلة وأخذها فليحدثنا عن رأى الإخوة»، لكن مرسى لم يكن لديه شىء يقوله فتحدث وتحدث وتحدث لخمس وأربعين دقيقة دون أن يقول شيئاً، وبملل شديد التفت المشير وقال لى «اتفضل رد» فقلت: «مجلة الإيكونومست اخترعت تعبيراً وصفت به اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى الذين يتحدثون ويتجادلون عديداً من الساعات دون أن يقولوا جديداً، والتعبير هو «التريدميل السياسى» (وجهاز التريدميل هو السير الذى تمشى عليه دون أن تتحرك من مكانك) والدكتور مرسى فعلها فينا وتكلم 45 دقيقة دون أن يقول شيئاً، وقال المشير مبتسماً يعنى «خطوة تنظيم»، زى ما بنقول فى العسكرية، وحاول مرسى أن يتظاهر بالغضب ووقف موحياً أنه سينسحب، وشخط المشير «اقعد» فقعد.
تحدث المشير فقال: «توصلوا لحلول ولا ترسلوا إلينا الكرة».. ثم وجه كلامه للإخوان: اللى متصور إن له نفوذ فى الجيش واهم
والحقيقة أن المشير كان لا يجد فى الجالسين كثيراً ولا قليلاً من الراغبين أو القادرين أو المتحمسين للرد على الوفد الإخوانى، كثيرون كانوا يستشعرون اتجاه الريح، وأن مركب الإخوان تمتلئ قلوعها بهواء المقبل فتسرع نحوه، ويخشون فى نفس الوقت من احتمال غضب المشير ورجاله.. ويكون الدواء هو الصمت.
وكان الحوار يدور فى أغلبه بين مطولات إخوانية وردود من جانبى واثنين أو ثلاثة آخرين يتحمسون فينطقون ثم يتعقلون فيصمتون، وكان الأكثر مناكفة فى أحيان كثيرة هو المستشار الفضالى، لكن المشير كان يقصد إعطائى الكلمة دوماً حتى دون أن أطلب للرد على الإخوان، وكنت أعرف أنه يتعمد ذلك وأتقبله، وقبله كان يفعلها رئيسان عاصرتهما فى مجلس الشورى، الدكتور مصطفى كمال حلمى وصفوت الشريف، فما إن يُفتح باب وحتى نافذة للحديث عن التأسلم السياسى حتى تأتينى الكلمة دون أن أطلبها، فكثيرون لا يريدون، أو يتعاطفون أو يحاذرون والأكثر لا يعرفون، وكنت أتقبل ذلك كفرصة للتعبير عن رأى كان الكثيرون يترددون فى التعبير عنه، فقد كان التيار الإخوانى متسلطاً على عقول كثيرة.
قلت لـ«العصار»: «استعد لدخول قفص الاتهام أمام قضاة من الإخوان.. فصاح: «أنا ماباخافش»
وكان الأمر كذلك مع المشير، ولاحظ أحد أعضاء المجلس العسكرى ذلك، وخلال أحد الاجتماعات كان الحوار محصوراً بينى وبين الثلاثى مرسى ومخيون والصاوى، ومع تداخلات هامشية بعضها يعبر عن وجود رغبة فى أن يتبدى مشاركاً وتكون الكلمات محاذرة وبلا مذاق.. وفيما الملل يخيم حمل لى أحد ضباط البروتوكول الواقفين دوماً فى القاعة ورقة من أحد اللواءات الحاضرين مكتوباً فيها: «لماذا يصمت هؤلاء الناس؟ وأجبت على ذات الورقة ببيت شعر:
مت بداء الصمت خير من كلام إنما العاقل من ألجم فاه بلجام.
ابتسم ورأيت الورقة وهى تمضى من يد لأخرى، والمثير للدهشة أن المشير نفسه استخدم الشعر يوماً، ربما للتعبير عن الملل، أو للتخفيف من حدة الملل.. وفى بداية إحدى الجلسات الأخيرة بدأ الجلسة قائلاً:
إلام الخلف بينكموا إلاما وهذى الضجة الكبرى علاما
وفيم يكيد بعضكمو لبعض وتبدرون العداوة والخصاما
ثم التفت إلىَّ: «ويبدو أن الورقة الخاصة بالصمت خير من الكلام قد وصلت إليه»، فقال أكمل يا دكتور.. فأكملت القصيدة:
فأين الفوز لا مصر استقرت على حال ولا السودان داما
وتأمل المشير الجالسين وعيناه مسلطتان على الإخوان وإلى جوارهم مخيون، فأعاد: فأين الفوز لا مصر استقرت / على حال ولا السودان داما.
ثم بدأ الجلسة
وفى نهاية كل اجتماع كانت الدعوة على الغداء فى الأغلب تأتى بالقرب من موعد العشاء، ولاحظ رجل البروتوكول الشديد اليقظة أننى أتجه فى كل مرة مسرعاً إلى الأسانسير لأغادر بينما يتجه الجميع إلى صالة الطعام.. و«الغداء يافندم» وأجبت أكثر من مرة بلهجة تعمدت أن تأتى فكاهية «مش عايز آكل معاكم عيش وملح»، وكالعادة انتقلت العبارة إلى المشير، وهو فى الأغلب لا يقبل الهزار، فانتظرنى عقب أحد الاجتماعات وأمسك بى: «ليه مش عايز تاكل معانا عيش وملح»، وقلت له الحقيقة: «ليلى زوجتى مريضة وأتركها وحيدة ولا أريد أن أغيب عنها من أجل وجبة»، سألنى فى ألم: «تحب أى مساعدة؟»، وشكرته بحزم، لكنه قال: تعالى ولو خمس دقائق، لقد سمعت أنك لا تأكل لحماً ولا فراخ فقط سمك.. وأتينا لك بما تحب وقادنى إلى المائدة الرئيسية ليجلس عليها هو والفريق ومرسى وأنا، والمثير للدهشة أن مرسى كان قد سبق الجميع وبدأ يأكل وحده غير منتظر لأحد، ولأول مرة أرى إنساناً يفترض أنه متحضر «ومتخرج من أمريكا» يأكل بيديه الاثنتين ويلحس أصابعه بعد تقشير الجمبرى بيديه.. جلست لخمس دقائق.. واستأذنت فأذن المشير وهمس فى أذنى: «إذا احتجت حاجة احنا تحت أمرك»، فقلت «مستورة والحمد لله».
وكانت الحوارات حول كيفية تشكيل الجمعية التأسيسية ونسبة كل طرف فيها، والإخوان يريدون وبتشدد شديد الاستحواذ على أغلبيتها ليضعوا دستوراً يعبر عنهم ويحكمونا به، وفيما كانت الحوارات تجرى بأمل أن يزيح أى طرف طرفاً آخر لينال مقعداً أو أكثر، وحيث تجلى الحلف المتأسلم واضحاً وجلياً «الإخوان - النور - السلفيون» مع استعدادات واضحة من أفراد أو قوى صغيرة يتمنون بها أن يرتدوا ثياب التأسلم لينالوا بها مساحة من رضاء الإخوان، لكن الإخوان كانوا فى ذلك الوقت بين أمرين، أحدهما الإيحاء بأنهم يريدون أن تتسع اللجنة التأسيسية لأكثر من تيار، والثانى هو الإصرار على التحكم فى عملية إعداد الدستور، وبين الأمرين كانت الصراعات المعلنة والاتصالات الخفية مع قوى كنا نعتبرها محسوبة معنا فى صف التيار الليبرالى، فإذا بها تتهامس سراً وأحياناً فى مباهاة مع الإخوان.. سواء فى لقاءات جماعية مفتوحة مثل لقاء فيرمونت أو مؤتمرات صحفية صاخبة أمام مقر مكتب إرشاد الجماعة بحضور المرشد ومرسى وقيادات إخوانية وبعض المتقربين والمتملقين والمتعجلين من سياسيين محدثين لا يتقنون حتى أسلوب التملق أو التآمر مع العدو المفترض.. كل ذلك ألقى بظلال كئيبة على المناقشات بقدر ما هى مجدية وتبدت أيضاً وكأنها بلا نهاية.
حتى كان يوم يبدو فيه أن الكيل قد فاض بالمشير والمجلس العسكرى فدخل الاجتماع وعلى وجهه غضب لا يخفيه ولعله أراد ألا يخفيه.. وقال هذا آخر اجتماع ولن يغادر أحد هذه القاعة إلا بعد أن نصل إلى اتفاق.. ولست أدرى لماذا وجدت نفسى وقد فاض بى الكيل أنا أيضاً، وقلت سيادة المشير هذا أمر ضبط وإحضار؟ فقال بلا ابتسامة «ليكن كذلك».
وهنا وجدت نفسى دون قرار مسبق أقول بصوت فيه رتوش من غضب: «سيادة المشير هل هو فعلاً أمر ضبط وإحضار؟» فقال: «افهموه زى ما انتو عايزين»، فقلت إذن أنا عندى كلمة لو سمحت فقال «اتفضل» وبدأت بسؤال تبدى غريباً طبعاً يا سيادة المشير وسيادة الفريق والسادة اللواءات أنتم جميعاً درستم تاريخ المعارك العسكرية الشهيرة؟ وفيما تهتز رؤوس بالموافقة قلت فهل يتذكر أحد أسماء القادة الذين هُزموا مع نابليون فى «ووترلو؟»، وأجبت على نفسى طبعاً لا.. وقلت: «هل يتذكر أحد أسماء القادة الذين اصطفوا مع أحمد عرابى أمام قصر عابدين ليواجهوا الخديو توفيق.. وساد صمت فأجبت على نفسى، أنا أعرف بعضهم بحكم دراستى للتاريخ وإعدادى لكتابى عن الثورة العرابية، لكننى أتخيل أن لا أحد من الحاضرين يتذكر سوى القائد.. مصطفى كامل - محمد فريد - سعد زغلول - عبدالناصر ثم وبدون سابق ترتيب وجدت صوتى يعلو وقبضتى تدق على المائدة بعنف ومعها هكذا يا سيادة المشير فإن التاريخ إذ يفتح صفحة هذه الأيام لن يتذكر ولن يذكر إلا اسمك أنت.. إن خيراً فخير وإن شراً فشر» وخيم صمت متوتر على رؤوس الجميع، خاصة أعضاء المجلس العسكرى الحاضرين.
صمت المشير قليلاً ثم وجه كلامه إلى سقف الغرفة، وقال «حتى عندما كنا ملازمين أوائل كنا ننسى الإساءة التى توجه لنا»، أما أنا فكنت لم أزل متوتراً على غير العادة فقد أحسست أن الأمور تتجه وبسرعة نحو تسليم الإخوان مفاتيح اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، «فللمرة الأولى كانت هناك همسات تسبق الجلسة بين الفريق وأيمن نور الذى قضى طوال الجلسات السابقة صامتاً فى ابتسامة تحاول أن تقول إنها واثقة، وكان مصطفى بكرى منزوياً يكتب شيئاً وكان يمثل الإخوان ثلاثة وليس اثنين، القادة الكبار اختفوا وحضر من الصف الثانى إبراهيم حسين، عصام العريان، أسامة ياسين)، وقلت: أنا لم أكمل سيادة المشير.. فقال بامتعاض: اتفضل كمل، وقلت لعلك والسادة اللواءات الجالسين هنا تعرفون إلى أين تقودون الأمور، ولكن لنفترض أن لواء آخر غيركم وفى طريقه إلى البيت يقرأ فى كل خطوة تسرع بها السيارة يسقط حكم العسكر وشتائم ضدك يا سيادة المشير وبحثت عن مرسى لأزغده فلم أجده فزغدت إبراهيم حسين، قائلاً: وأنت تعرف من يكتب ومن يدفع لمن يكتب؟ ومن يستفيد مما يكتب؟ ويعود اللواء إلى بيته لتسأله ابنته مين اللى بيكتب ضدكم؟ وساكتين عليهم ليه؟ انتوا خايفين منهم ولا إيه؟ فبماذا يجيبها؟.. وأنهيت كلمتى بهذا السؤال.. وهنا صاح أسامة يس دون أن يطلب الكلمة: يا سيادة المشير الدكتور رفعت بيسخنك ضدنا.. ولحقه مخيون فعلاً يا سيادة المشير بيسخنك ضدنا.. ورد المشير غاضباً: «أنا محدش يقدر يسخنى ولو كنت أتسخن كنتم شفتم وش تانى»، وسرى تيار الكهرباء فى الجلسة «الإخوان يطلبون 51٪ من أعضاء الجمعية التأسيسية، وقلت فى هذه الحالة يكون التصويت بنسبة الثلثين، وصاح عصام العريان: «البعض هنا يحاول تخويف الناس منا ويتصور أن كل من يقف معنا إخوان»، فقلت مقاطعاً: «أنا لا أنكر ذلك، وإذا صممتم على رأيكم فأنا من الآن أعلن انسحابى من اللجنة التأسيسية وسأغسل أيدى حزب التجمع من هذا الموضوع كله»، فرد مصطفى بكرى مقاطعاً: «انسحاب د. رفعت يقلب موازين كثيرة، ولا بد من التفاهم»، فرد إبراهيم حسين: «البعض يحاول أن يفرض إرادة الأقلية على المجموع»، فقلت بصوت أعلى من صوته: عندما يكون الوطن مهدداً فلا مجال لخضوع الأقلية لمن سيدمرون المستقبل.
هاج الاجتماع وفُقدت الضوابط الصارمة وصار الجميع يتكلمون فى نفس واحد، فدق المشير بقبضة صارمة: «ترفع الجلسة لنصف ساعة»، والمصيبة أننى عندما خرجت لم أجد من يمكن أن أتشاور معه، كثيرون يرفضون الاقتراح الإخوانى ولكن لا ينطقون، ففى عملية توزيع الجمعية التأسيسية يحتاجون ما يضمن لهم وجوداً فى البرلمان عبر تحالف ولو غير معلن، وفيما أشرب الكابتشينو اقترب منى واحد من المجلس العسكرى كان الأقرب إلى قلبى، ربما لأنه الأكثر وعياً ومعرفة وأيضاً تودداً، هو اللواء العصار، وقال لا تخف ولا تتوتر الشعب المصرى البسيط رغم أميته وبساطته سيتمسك بالدولة المدنية وهو لن يقبل بحكم الإخوان ومن تسميه أنت التأسلم، «كنت لم أزل أغلى وقلت بغلظة غير مفترضة إذن استعد إنك تدخل قفص الاتهام أمام قضاة جماعة الإخوان، بهت الرجل من الجرأة والتجاوز وتركنى صائحاً: «أنا مابخافش»، وكان الفريق يتابع حوارنا من بعيد فسألنى حصل إيه؟ فأعدت له ما قلته فصاح فى وجهى: «مش معقول تقول كلام زى ده لسيادة اللواء».. وكان اللواء السيسى يتابع الأمر مبتسماً وهو جالس على مقعده الذى لا يغادره ولا يغيره، وقرر تهدئتى بأن وعدنى أن يرسل لى دراسة عن الإخوان، قدمها اللواء صدقى صبحى خلال دراسته الأكاديمية فى أمريكا.. ولكن هذا الوعد تاه فى خضم الأحداث المتسارعة.
ويبقى لزاماً علىّ قبل أن أتواصل بمشاعر وأحاسيس وأحداث أن أعتذر للواء العصار فقد كانت توقعاته إزاء موقف الجماهير الشعبية من الإجراءات والتوجهات الإخوانية والمتأسلمة عموماً.. صائبة.
انتهت نصف الساعة، وكان أيمن نور قد أعد اقتراحاً شديد التعقيد بتشكيل اللجنة التأسيسية، وعصام العريان يقول بصوت عالٍ لكى أسمعه: «إحنا تسعين مليون ومش هينفع إن كل الناس تمثل فى اللجنة التأسيسية.. وكان مصطفى بكرى قد أعد مسودة بيان وعرضها بسرعة على الفريق.. وباختصار ودون أن أستطيع أن أمسك بخيط اتهام لأحد فإننى امتلأت بهواجس تأكدت سريعاً، ففى خلال فترة الاستراحة طبخ كل شىء وكان الاتفاق الهش يقول: أعضاء اللجنة مائة، خمسون للتيار الإسلامى وخمسون للتيار الليبرالى.. وأعلن عصام العريان موافقته ويبدو كما همس لى البعض من الصامتين الدائمين أنه خلال الاستراحة قد انتهى بالدكتور سيد البدوى ورتب معه أمراً.. ساد الارتياح بين الكثيرين، بينما غمرنى أنا إحساس بالقلق، فقد تصاعدت مشاعر تغير ملموسة ولكنها غمرتنى ربما دون سبب مؤكد بأن ثمة طبخة تم إنضاجها خلال هذه الاستراحة.
ومع التوتر تحدث الفريق متسائلاً: لماذا لا نثق فى بعضنا البعض؟ ولماذا لا نعلو فوق المصالح؟
أود هنا أن أشير إلى أننى ومع بداية هذه المرحلة من اللقاء الأخير بدأت أسجل ما يشبه محضر اجتماع، فقد أحسست بأهمية الكلمات وحتى الهمسات، وهنا تحدثت أنا، فقلت أطلب الكلمة للمرة الثانية، وقال المشير تقصد للمرة العاشرة، ولم ألتفت لهذه الوخزة، وقلت: «المسألة ليست مصالح شخصية ولا مقاعد برلمانية نحن مقبلون على وضع دستور، وفى الدستور نحن نطالب بدولة مدنية حديثة وهم يحاولون من الآن أن يفرضوا علينا ولاية المتغلب»، وتحدث عصام العريان الذى حاول أن يؤكد للجميع أنه قد تسيد الموقف، فقال: «إذا كنا سنختار مائة فلا يمكن للمائة أن تمثل كل الناس، والدستور بعد صياغته سيعرض للاستفتاء وللشعب الكلمة العليا فى التصويت، وأنا أعتقد أن أزمة الثقة سوف تزول بمجرد أن تبدأ اللجنة التأسيسية مناقشاتها.. ثم قال متوعداً: نحن أمام مسارين مسار يريد الإنجاز ومسار يصر على التفتيش فى النوايا، ويستحيل أن نصمم على الإجماع التام ولكن على التوافق بين الأغلبية فنحن مثلاً نوافق على ما طرحه د. سيد البدوى ما دام الهدف منه هو إنجاز الهدف الرئيسى.. (وهنا تأكدت لى همسة الصامت الدائم) وواصل «العريان»: وهناك مثلاً وثيقة الأزهر وكذلك وثيقة التحالف الديمقراطى وكثيرون متفقون على الوثيقتين بشكل عام وحول طرح د. رفعت لاشتراط نسبة 75٪ للتصويت، فنحن نرى أنه تشكل اللجنة ثم تحدد اللجنة بنفسها أسلوب التصويت. وقال بشكل حاسم: من يعطل يتحمل وحده مسئولية محاولة التعطيل.
وتحدث مصطفى بكرى فقال إن التصويت بأغلبية الثلثين يمثل ضمانة، ومن البداية إحنا قلنا دستور ثم انتخابات رئاسة، لكن خيرت الشاطر صمم الرئاسة ثم الدستور، وأنا أشعر بشرخ كبير إذا انسحب رفعت السعيد.. وإذا غابت روح التوافق البلد هتقع.. وأنا أطالب المجلس العسكرى أن يتدخل الآن لوضع المعايير الملزمة للجميع، وتحدث المستشار الفضالى قائلاً: البعض يعود بنا إلى نقطة الصفر فهل من المعقول أن نسلم مصر لأغلبية مؤقتة؟ ولهذا نحن لا يمكن أن نقبل التصويت إلا بنسبة الثلثين.
ثم تكلم إبراهيم حسين قائلاً: إحنا حريصين على إنجاز الدستور إمبارح مش النهارده والبعض يحاول إغراقنا فى النوايا ويتهمنا بأننا أغلبية وكأن الأغلبية معرة، والبعض يتصور أن كل من يقف مع الإخوان هو إخوان وليعرف الجميع أن اللجنة التأسيسية عندما تنعقد ستكون صاحبة لائحتها وأسلوب التصويت فيها.
وتحدث «السادات» فقال التصويت بأغلبية الثلثين يريح الجميع وأرجو ألا يتركنا المجلس العسكرى فى هذه الحيرة وأن يتدخل ليحسم الأمر.
وهنا تحدث المشير فقال: «أنا عارف أنا أعمل إيه، وسأعمل إيه، وأقول لكم جميعاً وخاصة الأغلبية توصلوا لحلول ولا ترسلوا إلينا الكرة، إحنا مش خايفين إحنا مات مننا كتير فى الحرب ومستعدين نموت، وأنا لن أترك مصر إلا شهيداً. نحن يا د. رفعت نريد أن نترك تاريخنا ناصعاً ولهذا ندعوكم للتوافق، توافقوا يا سادة. أنا بصراحة ممكن أصدر قرار دلوقتى حالاً لكن هذا سيكون قراراً صعباً. وإحنا عارفين إحنا بنعمل إيه، ثم وجه كلامه ناحية الإخوان وقال اللى متصور إن له نفوذ فى الجيش واهم، واهم جداً، إحنا موحدين ولا يؤخذ أى قرار إلا بموافقة العشرين واحد بالإجماع. وأعود لأؤكد أن هذه النصوص قد سجلتها بالنص خلال الجلسة الأخيرة.
ثم تحدث مصطفى بكرى فقال لنضع معيارين 50 +1 للمواد المتفق عليها وثلثين للمواد المختلف عليها، ثم تحدثت فقلت: «المتفق عليه 50 +1 والمختلف عليه يطرح للاستفتاء ومادة مادة». وتدخل عصام العريان محتداً: التصويت 50+1 وفى حالة الخلاف 60+1.
وفى النهاية كان الجميع مرهقين وتم الاتفاق أولياً 50 (تيار إسلامى) 50 (تيار ليبرالى مدنى)، لكن الهمسات التى لاحظتها كانت تسيطر، وقول عصام العريان: «نحن نوافق على ما طرحه د. سيد البدوى ما دام يساعد على إنجاز الدستور»، دفعانى إلى مقاطعة المشير وهو يطرح اقتراح أن الإخوان ستنفذ هذا الاتفاق (وطبعاً لم يكن ملائماً أن أحذر من اتفاق بين البدوى والإخوان دون أن أمتلك دليلاً).
فقال المشير وقد ضاق صدره: «طبعاً مصدق.. هو لعب عيال»، وصاح عصام العريان: «أنا سأخرج دلوقت لأعلن فى المؤتمر الصحفى أننا موافقون»، وأجبته: و«أنا خارج دلوقت ومش هحضر المؤتمر الصحفى حتى لا يتصور أحد أننى موافق وحتى لا أعترض فيتصور البعض أننى أفسدت الاتفاق، رغم تأكدى أن الاتفاق لن ينفذ».
وخرجت.
وقد كان.. فقد تسربت إلينا أخبار عن لقاء حضره فى حزب الوفد حزب النور والإخوان وحزب الوسط واتفق المجتمعون على ما أكد هواجسى وهو اعتبار الوسط حزباً ليبرالياً ومن ثم يدخل ضمن «كوتة» القوى الليبرالية وبهذا تنخفض نسبة الليبراليين الحقيقيين ومعهم الذين يزعمون ذلك، على اختلاف أنواعهم، إلى 49 وتزيد نسبة المتأسلمين إلى 51 مع ملاحظة أن حزب الوفد سينضم طبعاً إلى من اتفق معهم وكذلك حمدين صباحى ورجاله فتصبح النسبة مختلفة تماماً.
ثم وجهت الدعوة إلى أعضاء المجلسين لاختيار الجمعية التأسيسية.. ووزعت فى اللحظة الأخيرة قائمة تضم قرابة الألف مرشح والمطلوب اختيار مائة دون زيادة ولا نقصان وهو أمر يشبه الاستحالة واكتشف الحاضرون أن ثمة قائمة توزع سراً بها المائة اسم، وهى قائمة مغلقة متفق عليها سراً (وهى تضم قوى المتأسلمين + الوفد + حمدين ورجاله + الديمقراطى الاجتماعى + السادات كل بنسب مختلفة مع احتفاظ الإخوان بالأغلبية المطلقة).
وقبل التصويت وقف عاطف مغاورى، عضو مجلس الشعب، ليعلن باسم حزب التجمع الانسحاب من عملية التصويت ومن اللجنة التأسيسية أصلاً. (فقط أود أن أضيف أنه قبل التصويت بيوم اتصل بى أحد قادة حزب الوفد وقال بصراحة نحن نعد قائمة مشتركة فهل نضع أسماء منكم، وقلت لا).
وهكذا بدأ الإخوان ليس فقط رحلة وضع دستور إخوانى وإنما أيضاً رحلة كشف الغطاء عن حلفائهم.
■ ■ ■
وأقفز سريعاً إلى مرحلة حكم مكتب الإرشاد.
إذ بدأت معركة جديدة بأسلحة كتابة جديدة فأنت تخاطب حاكماً وتريد أن تهزم الأسس التى تقوم عليها قواعد حكمه، وهو ليس الحاكم وإنما الآخرون المقيمون فى المقطم إلى جوارى حيث أسكن، والآن القليلون، بل القليلون جداً ممن كانوا يتجاسرون بالكتابة ضد الحاكم الصورى والحكام الأصليين وضد جوهر الفكرة التى تبدت وكأنها انتصرت قد بدأ أغلبهم يقلل من الهجوم والانتقاد بزعم أن إرادة الشعب قد انصرفت إلى انتخاب رئيس إخوانى بغض النظر عن أى شىء، كنت أنا أتصرف وقد تلبستنى حالة تبدت أحياناً وكأنها غير منطقية فى نظر الكثيرين حتى من خصوم القوى المتأسلمة وهى أنهم ذاهبون حتماً. وأن حكم الإخوان لن يبقى طويلاً، وكنت أردد ذلك دوماً دون خوف من الإخوان ودون سند ممن يفترض أنهم ضدهم.
■ ■ ■
وفى صباح أحد الأيام أتى إلى مكتبى الدكتور محمود خيال وهو صديق قديم تعرفت عليه فى إطار جمعية التنوير (د. فرج فودة) وطلب مائة نسخة من كتاب لى أصدرته قبل حكم الإخوان بعامين وعنوانه «التأسلم السياسى - جماعة الإخوان نموذجاً»، طبع الكتيب ثلاث مرات إحداها من مكتبة الأسرة، لكنه نفد بسرعة، وبحثت له ولم أجد، فاقترح أن نعيد طبع الكتاب وأن يتحمل هو وأصدقاؤه التكلفة والتوزيع لأنه كان من المستحيل أن توزعه أى مؤسسة صحفية. واتفقت مع المطبعة فطبعنا ألف نسخة بذات المواصفات وذات الغلاف وذات البيانات بحيث لا يشعر أحد أنه إزاء طبعة جديدة.. وتسلم د. خيال النسخ التى تتوافق مع طاقة توزيعه هو وأصدقاؤه وقمنا نحن بتوزيع الباقى.
ثم كان أن خطر فى بالى أن أجمع ما كتبت عن الإخوان و«مرسى» وممارساته منذ وصوله إلى الاتحادية فى كتاب، وبعد مماحكات ومفاوضات مع الطابع اتفقنا على أن يصدر وتم الإيداع باسمى وأن يختفى اسم الطابع وأبقى أنا المسئول.. وقد كان، وصدر الكتاب بعنوان صريح.. وهو «رسائل إلى د. مرسى - مقالات - حوارات - دراسات».
ومع صدور الكتاب تصاعدت مظاهرات النسوة بالدفوف وحملات الهجوم فى الفضائيات وبعض الصحف، وأدركت أننى على الطريق الصحيح.
وكان الذى أزعج «مرسى» ورؤساءه بعض عبارات المقدمة.. ومنها كمثال «والمشكلة فى أيامنا البائسة تأتى من ارتباك المشهد الرئاسى، فلا هو رئيس ولا هو مرؤوس. هو يجلس منتشياً على عرش مهتز، ويسافر، يسافر، يسافر، وكأنها فرصة لن تتكرر (وقد كانت كذلك فعلاً) ويحاول الزعم بأن الزيارات تستهدف استجلاب نفوذ لمصر ناسياً أنه ولو طار حول الكرة الأرضية فإن النفوذ لا يأتى إلا عبر إصلاح الوطن واستقراره وسعيه نحو التقدم، وما من شىء من هذا أتى به»، ورغم عشرات المقالات والتصريحات والحوارات حملت انتقادات أشد قسوة وعنفاً إلا أن عبارة «لا هو رئيس ولا مرؤوس» قد أغضبت «مرسى» أكثر من غيرها.. رغم أن غيرها كان أشد قسوة، أما غلاف الكتاب الذى اتشح بسواد كامل وبعلم مصر مسجوناً فى زنزانة عالية الأسوار.. فقد أغضب الكثيرين من قادة الجماعة.. وأغضبهم أكثر أن اسم الطابع غير موجود وكذلك اسم مصمم الغلاف.. ويبقى محيراً بالنسبة لى كيف ألخص ما ورد فى الكتاب، ليس لكى أتباهى بما لم يتجاسر عليه الكثيرون من ذوى الألسنة الطويلة، والذاكرة المراوغة الذين يحاولون أن يستروا خضوعهم المذل للإخوان وحكمهم وأحكامهم بصراخ يأتى فى زمان أصبح فيه الإخوان سادتهم فى الأمس داخل السجون. لكن نشر بعض هذه الكتابات والأقوال هو بذاته تسجيل لمواقف من الضرورى ذكرها وممارسات تعبر عن جزء من ذكريات عزيزة إلى قلبى.