الناجون من «جحيم الهجرة»: دفعنا «تحويشة العمر».. و4 مراكب صيد أنقذتنا
المصابون فى حادث غرق «مركب رشيد» خلال تلقى الإسعافات فى المستشفى
ساعات من الرعب والفزع عاشها ركاب «رحلة الموت»، يتذكرونها بأسى أثناء احتجازهم بمركز شرطة رشيد، وعلاج المصابين بمستشفى رشيد العام، وكان الأكثر مأساوية بين ما ذكروه أنهم لم يتذوقوا الطعام منذ يومين. وقال أحدهم، رافضاً ذكر اسمه، إن أحد المسئولين عندما علم بحالتهم أمر بصرف «باكو بسكويت وعلبة عصير» لكل منهم، حيث كانوا يخضعون للتحقيقات طوال الليل، وهم يعانون من إعياء شديد.
«محمد»: «تعلقت بسترة نجاة وكدت أغرق بعدما نزعها منى مهاجر سودانى لينقذ نفسه».. و«سامح»: «غامرت بحياتى لأوفر لأهلى عيشة كويسة».. و«أحمد»: «كنت عاوز أريّح أبويا الأجير»
ورغم المأساة وساعات الهلع التى عاشوها على متن «موكب الرسول»، أشار عدد قليل من الناجين المصريين إلى أنهم لن يتوقفوا عن محاولتهم الهجرة إلى إيطاليا، بعد إخلاء سبيلهم، هرباً من الفقر والبطالة التى يتجرعون مرارتها يومياً فى مصر. وقال أحد المحتجزين، ويُدعى «شريف»: «لم أتوقع أن السفر عن طريق الهجرة غير الشرعية سيعرض حياتى للخطر بهذا الحد، كنت أحلم بإيطاليا، والحصول على فرصة عمل لتوفير أموال، أبدأ بها حياتى فى مصر».
بجسد متعب، يرتعد من الخوف، افترش محمد عماد، صبى، 14 عاماً، الأرض داخل جراج قسم شرطة رشيد، وإلى جواره عشرات الناجين. يروى «محمد» قصته مع الهجرة بأن والده رفض سفره خوفاً عليه فى البداية، لكن مع مرور الوقت رضخ لإلحاحه، ودفع لسمسار من قريته مبلغ 21 ألف جنيه، ليلحق بزملائه فى المدرسة الذين سبقوه إلى إيطاليا. وهنا قاطعه أحد مجندى القسم: «هنسيبهم من هنا هيرجعوا يدوروا على مركب تانى يسافروا عليه»، ولكن يرد عليه مسرعاً: «لا، لا، طبعاً عمرى ما هكررها تانى»، وهو الوعد الذى قطعه «محمد» على نفسه مع تمايل المركب وبداية غرقه، ويقول: «أحد الركاب استطاع الاتصال بقوات الإنقاذ والأمن، وحينها رأى المهربون يرتدون سترات واقية ويجلسون إلى جوار المهاجرين خوفاً من القبض عليهم، لكن فرق الإنقاذ والأمن لم تأتِ كما تمنى الجميع، وأخذ المهربون يتابعون المركب وهى تغرق بكل هدوء حتى غرقت بالكامل، فلم يجدوا مفراً من السباحة وترك المهاجرين لمصير المجهول.
يؤكد «محمد» أنه تعلق بأحد سترات الإنقاذ 6 ساعات حتى ظهر مركب صيد بجوار موقع الحادث وبادر أصحابها بإنقاذ المصابين وجمع جثامين الضحايا المتناثرة فى البحر، وسط تكبير المهاجرين الذين شاهدوا الموت بأعينهم، ويوضح: «4 مراكب صيد هى التى أنقذتنا». وكانت أصعب الساعات التى مرت على «عماد» عندما تعلق به أحد السودانيين لإنقاذ نفسه حتى كاد أن يُغرقه، وانتزع السودانى السترة من الصبى الذى بحث بدوره عن غيرها وسط الجثامين حتى تمكن من الوصول لسترة عالقة بجثة سيدة سورية.
محمود على، 24 عاماً، ظل يجمع «القرش على القرش» ليسدد ما يكفى من أموال لسمسار قريته بمحافظة المنوفية، من أجل السفر للمرة الثالثة، بعد فشل المرتين السابقتين، والقبض عليه من قبل قوات حرس الحدود قرب الشاطئ، ويقول: «الكل رايح عشان لقمة عيشه بدل الفقر اللى إحنا فيه».
ويتابع: «المركب كانت تحمل ضعف طاقتها، كانوا حوالى 420 مهاجراً سوريين وسودانيين ومصريين، واتصدَمت لما شفتهم، خاصة أننا لم نتفق على ذلك، وبسبب الزحام المركب كانت بتتأرجح، وسط تهديدات المهربين بترك المركب والمهاجرين والعودة دون استكمال الرحلة».
يضرب «محمود» الأرض بقبضة يده بعنف، ويختلط عرقه بدموعه، ويعاود الحديث قائلاً: «مكانش فيه حل تانى غير السفر». ويضيف أن 4 مراكب شاركت فى إنقاذهم، وقوات الإنقاذ وصلت بعد غرق المركب بـ7 ساعات.
«مش لاقيين شغل فى بلدنا، والظروف صعبة، ومش عارفين نعيش ولا نعمل حاجة لبكره، ده اللى دفعنا للهجرة».. بهذه الكلمات بدأ مصابو الحادث حديثهم لـ«الوطن» من داخل مستشفى رشيد العام، الذى بدا أكثر هدوءاً من مركز الشرطة.
سامح محمد عبدالدايم، 18 سنة، طالب، مقيم بـ«الجزيرة الخضراء» بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، قال: «غامرت بحياتى، عشان أقدر أوفر لنفسى ولأهلى عيشة كويسة»، وعن كيفية مشاركته فى «رحلة الموت» قال: «تجمعنا كلنا فى قرية مسترو، ونقلونى مع آخرين فى قارب، ثم إلى قارب ثانٍ، ومنه إلى قارب ثالث، وأخيراً إلى المركب التى غرقت بسبب الحمولة الزائدة، وتهالكه، ومن وقت الكارثة مشفتش أى حاجة إلا وأنا فى المستشفى، والحمد لله على كل شىء».
وقال أحمد محمود درويش، 22 سنة، من مركز زفتى بالغربية: «أعمل نقاشاً، لكن الحياة بقت صعبة، والمطالب كتيرة ومش بتخلص، واللى جاى على أد اللى رايح، وده اللى دفعنى للهجرة غير الشرعية، ومضيت على إيصال أمانة بـ20 ألف جنيه، وكنت متفق مع الراجل اللى مسفرنى إنه ياخدهم من أهلى لما أوصل إيطاليا، ياريت الشباب ميفكرش فى السفر بالطريقة دى، بلدنا أحسن مهما كان». وأضاف «محمود»، رافضاً ذكر اسمه كاملاً: «بدأت رحلتنا يوم 18 سبتمبر، حيث بدأنا بالتجمع فى قرية مسترو، وفرض علينا سماسرة الهجرة حظر التجوال داخل القرية لعدم لفت الأنظار، وكان الطعام والشراب الموجود معانا يدوب يكفى، حتى جاء موعد السفر، وكانت قارب صيد الوسيلة الوحيدة لنقلنا للمركب، ورغم شكله الهزيل، وافقنا على السفر فيه، ورفضنا الحمولة الزائدة بعد أن وصل العدد إلى 300 فرد مع آخر قارب صيد وصل إلينا، وكان كبار السن هم أصحاب الرأى والاعتراض على السفر بهذا الوضع، خاصة بعدما أصر طاقم المركب، المكون من 4 أشخاص، على تحميل أعداد كبيرة من السودانيين فى قاع المركب، وحدثت مناوشات بين الركاب وأصحاب المركب، وبدأت المركب تتمايل مع الحركة بداخلها، واتصلت بأهلى وأخبرتهم، وآخرون اتصلوا بالشرطة وأخبروها عن مكان وجودنا، بعد أن شعروا بالخطر».
وبعد أن التقط أنفاسه استكمل «محمود» قائلاً: «توقعنا وصول الشرطة وخفر السواحل فور الإبلاغ، ولم نشاهد أى قوارب تقترب منا بعد المشاجرة مع أصحاب المركب، وحدثت فوضى على المركب، وتعالت صرخات الركاب، وكان بيننا أطفال من 9 إلى 12 سنة، ومع تمايل المركب ألقى عشرات أنفسهم فى مياه البحر للفرار من الموت، إلا أن ارتفاع الأمواج تسبب فى غرق المركب، وتمكنت من التقاط لوح خشب تعلقت به كان سبب نجاتى من الموت، وشاهدت وأنا فى عرض البحر بعض قوارب الصيد التى حضرت لإنقاذنا، وفور صعودى على أحد القوارب التى حضرت لإنقاذنا، فقدت الوعى».
أحمد جمال، 20 عاماً، طالب بالثانوية الصناعية بقرية كفر شكر بالقليوبية، أحد الناجين، بدا مكبل اليدين أثناء العلاج، حيث وصل للمستشفى مصاباً بالإغماء وحينما أفاق وجد يده مقيدة فى الكلابش ومربوطة بالسرير، لكنه لا يلقى لذلك بالاً، فما تعرض له من خطر له يفوق قيده، بعدما شعر أن حياته انتهت، لكن الله كتب له النجاة، وهو الآن متهم بـ«الشروع فى الهجرة بطريقة غير مشروعة». وعن أسباب سفره يقول: «مفيش شغل ودفعت 35 ألف جنيه جمعها والدى الأجير بالعافية، وكنت عاوز أريّحه بعد سنوات الشقا اللى شافها طول عمره». حينما وصل «جمال» ورفاقه إلى المركب عبر زوارق صغيرة، فوجئوا -حسب قوله- بأن قاع المركب ممتلئ بالمياه، والمهربون أخذوا ينزحونها بالجرادل، وطالبوا الركاب بالهدوء وعدم إثارة البلبلة.