«زويل».. إلى «بقاء»
العالم الراحل الدكتور أحمد زويل
الآن يتوقف الزمن، يستريح عقرب الثوانى الرفيع من مطاردة عقربى الدقائق والساعات، الآن فقط تخفت الأصوات، فلا تسمع إلا همساً، فيما ينحسر الضوء شيئاً فشيئاً حتى يغيب تماماً عن الجسد المسجى على فراشه الأبيض، إذ فى أقل من «فيمتو ثانية» تنسل الروح بخفة من هيكلها، لتملأ فراغ الغرفة، وحدة قياس زمنية بسيطة للغاية كفيلة على ما يبدو لأن يتحول العالم المصرى الشهير أحمد زويل، صاحب الإنجازات العلمية ومسيرة العطاء الحافلة، إلى مجرد رقم فى عداد الأموات، أولئك الذين يغادرون الدنيا فى لحظات عابرة، ويوارون التراب، كأنهم ما كانوا ولا عاشوا جزءاً واحداً من مليون مليار جزء من الثانية.
الروح انسحبت فى أقل من «فيمتو ثانية».. والإنجازات ستظل «خالدة»
سبعون عاماً وبضعة أشهر قضاها زويل ضيفاً على الدنيا، ومثل ضيف خفيف زارها فى شتاء عام 1946، ليحل على أسرة بسيطة كانت تسكن مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، فيصبح أحد أبنائها، تنتقل الأسرة لمحافظة كفر الشيخ ويتنقل معها الصغير، وهناك يلتحق بإحدى المدارس، لينال حظه من التعليم، ذلك التعليم الذى تدرج فى سلكه حتى وصل فى نهاية المطاف إلى كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، حيث حصل منها على درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف فى فرع الكيمياء، ليتم تعيينه معيداً، ويحصل على درجة الماجستير قبل أن يتم إيفاده فى بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فينخرط فى معاهدها العلمية، ويواصل التأثر والتأثير، حتى يصبح واحداً من علماء أمريكا المعدودين، بعد أن تمنحه جنسيتها، وترفعه إلى مصاف العباقرة.
على مقعد خشبى، وفى حلة أنيقة للغاية، جلس العالم المصرى فى قاعة مزدحمة بمئات العلماء الأجانب بدولة السويد ليستمع إلى حيثيات منحه جائزة نوبل فى الكيمياء لعام 1999، قال مقدم الحفل فى إنجليزية شديدة التهذيب: «لقد حاولت أن أشرح كيف أن أبحاثك الرائدة أحدثت تغييراً جذرياً فى فهم العلماء للتفاعلات الكيميائية، فمن كوننا مقيدين بوصفها فقط عبر المصطلح المجازى (الحالة الانتقالية)، فباستطاعتنا الآن أن نرى الحركة الفعلية للذرات والجزيئات، يمكننا أن نصفها تبعاً للمكان والزمان كما نتخيلها، فلم تعد مختبئة عن العيان بعد الآن، أتقدم إليك بأحرّ التهانى بالنيابة عن الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وأطلب منك أن تتقدم لتسلم جائزة نوبل للكيمياء للعام 1999 من يد جلالة الملك».
ما الذى فعله أحمد زويل بالضبط، ليستحق جائزة نوبل؟ هكذا دار السؤال فى مصر فور إعلان حصول أحد أبنائها على الجائزة، راح من يعرف يشرح بالتفصيل: «العالم المصرى اخترع كاميرا تستطيع التقاط حركة الذرات والجزئيات فى جزء من مليون مليار جزء من الثانية»، أصغر وحدة قياس زمنية أطلق عليها زويل «فيمتو ثانية»، بدوره راح زويل نفسه يطلق النكات: «المصريون القدماء أجدادى اكتشفوا أكبر مقياس للزمن، كالأعوام والشهور والأيام، وبعد آلاف السنين جاء أحد أحفادهم، ليكتشف بدوره أصغر وحدة قياس زمنية.. الفيمتو ثانية».
كان لا بد لزويل، وقد تم تكريمه عالمياً كثالث مصرى يحصل على جائزة نوبل، وأول مصرى وعربى يحصل على الجائزة فى مجال الكيمياء، أن تمنحه مصر قلادة النيل، أحد أرفع أوسمتها، إن لم يكن أرفعها على الإطلاق. فتحت له مصر أبوابها كما تفعل دائماً مع كل من يخرج منها «طفشان» من تاريخها البيروقراطى الطويل فى التعامل مع الموهوبين والعباقرة، ثم يعود إليها ظافراً منتصراً، ملء السمع والبصر، هكذا حل «زويل» ضيفاً على برامج التليفزيون والإذاعة وصفحات الجرائد، جميعهم أفردوا مساحات من الزمن له ليتحدث عن مشواره الطويل فى التعليم داخل مصر، وخارجها، وعن أبحاثه ومناصبه العلمية الرفيعة، ومن ناحيته لم يقصر هو، خاصة بعد أن ذاعت النغمة المعتادة عن الجميل الذى يجب أن يرده العالم الكبير للبلد الذى سانده وساعده وعلمه، دون أن يهتم أحد بأن يسأل نفسه عن السبب الذى دفع زويل للهروب من البلد «باللى فيها»، ويلجأ إلى بلد آخر يحترم العلماء، ويقدر أصحاب المواهب.
على أن الحياء وحده على ما يبدو هو الذى منع زويل من أن يخوض فى تفاصيل قد تمس سمعة البلد، الذى ولد فيه، على العكس تماماً، تحمس للغاية حين استعانت به السلطة فى مصر لوضع اسمه على مشروع علمى يتم إنشاؤه على أرضها، كان قد حصل وقتها على شهرة لم يسبقه إليها عالم مصرى أو عربى، إذ بالإضافة إلى عشرات الجوائز والأوسمة التى حصدها من كافة دول العالم، فقد اختاره الرئيس الأمريكى ليصبح أحد مستشاريه للعلوم والتكنولوجيا ضمن 20 عالماً مرموقاً فى عدد من المجالات، وبعيداً عن الصراع الذى نشب بين زويل وبين جامعة منحتها له الحكومة المصرية، ليضع اسمه عليها، فقد تحقق الحلم أخيراً حين منحته الحكومة قطعة أرض كبيرة، ليقيم عليها مشروع مدينة علمية تحمل اسمه، وتستقبل الطلاب المتفوقين من كل أنحاء مصر، ويهديها مؤخراً «ميكروسكوب رباعى الأبعاد»، قال المتحدث باسمه إنه نسخة وحيدة فى العالم كله، كما يرسل للمدينة منضدة ليزر كهدية من جامعة «كالتك»، التى يعمل بها فى الولايات المتحدة الأمريكية.
هل انتصر زويل كعالم؟ بالتأكيد فعل، غير أن العلم يقف عاجزاً فى أوقات كثيرة أمام إرادة «العليم الحكيم»، وحده هو من يعلم السر وأخفى، وليس هناك أخفى من ورم سرطانى كان يرقد فى نخاع زويل الشوكى، قال هو إنه تعافى منه، وأصبح يعيش حياته بصورة طبيعية، ربما كان محقاً فى ذلك، وربما لم يكن، فى كل الأحوال أغلق زويل عينيه للأبد فى منزله بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ألقى بوصيته على زوجته وأبنائه: «ادفنونى فى مصر».