الفقية الدستوري جابر جاد نصار يكتب: وااا مرساه.. هل فات الميعاد؟!
من الأمانة أن أذكر فى بداية هذا المقال للقارئ الكريم، أننى أكتبه وتسيطر علىّ حالة من الغضب الشديد تأثّراً بما حدث ويحدث منذ 25 يناير 2013. إن المشهد السياسى لأروقة حكم يدعى كذباً أنه جاء بعد ثورة يستهدف تحقيق أهدافها هو مشهد بائس بكل المقاييس. فهذا الحكم قد أظهر وجهاً أكثر قُبحاً وأشد ضراوة وشراسة مما كان يتخيل أكثر المتشائمين به. هذا الحكم الذى خيّب آمالاً عقدت عليه، وضيّع فرصة تاريخية للذهاب بالدولة والشعب، إلى نظام ديمقراطى. تتحقق به أهداف الثورة فى العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. يخطئ عامداً ومصراً ومستكبراً ويخرج من خطأ كبير إلى خطيئة أكبر. يظن أن السلطة مغنم. ويجب أن يتداولها بين أهله وعشيرته، ويحرم منها كل الوطن. ظن أن الشعب مسئول عن عذاباتهم، ومن ثم فهو الذى يجب أن يُسدد الفاتورة ويجب أن يدفع الحساب.
ظننا أنه نظام حكم جاء لكى يفتح أبواب الحرية، والديمقراطية. فإذ به يغلقها باباً باباً ويضيق صدره بكل مظاهر القول الحر والفعل الحر، فالكل يجب أن يدخل حظيرة طاعته يجب أن يقبل الجميع بفكرة السمع والطاعة، لا يناقش، ولا يتكلم، ولا يشارك. فحلاوة السمع والطاعة وجمالها تفوق كل نقاش وكل جدال، فهم يتصورون أنهم يملكون كل الحقيقة ويتحدثون باسم الله، ولذلك احتكروا الدين والإسلام ومن ثم فإن من الواجب عليهم أن يحتكروا الدنيا ويسيرونها كما يريدون، ومن يعارضهم فهم خارجون عن الملة والدين ويعملون وفقاً لأجندات أجنبية لتقسيم الوطن. يروّجون كل ذلك، وهم الذين يقسمون الوطن حقيقة لا قولاً، ويمارسون السلطة بمنطق الأهل والعشيرة وبتعالٍ شديد. فلهم كل شىء، هم أصحاب الثورة، وهم أحق الناس بها، وهم الذين قاموا بها. أما الشباب فهم مخرِّبون ويهدمون استقرار الوطن ولا يريدون لعجلتهم أن تدور. صحيح أنهم كانوا يتشاركون مع النظام السابق وأكلوا على موائده، ودخلوا برلمانه. وكانوا جزءاً أصيلاً من مشهده السياسى. وكان بعضهم يوقّعون «حضور وانصراف» فى مكاتب أمن الدولة، ولكن ذلك كله كان خدعة لأنها كانت جزءاً من الحرب، والحرب كما هو معروف خُدعة. ومن ثم فإنهم هم فقط كانوا الثوار، ولذلك فإن استغراب البعض فى حقيقة الأمر من فهم الاستحواذ على السلطة والتعالى فى ممارستها وعدم الاستماع إلى الغير، غير مقبول وغير معقول.
إن هذا الاستحواذ والتعالى قد بان منذ أول لحظة، فقد كانت أولى خطوات الحكومة حين شُكلت أنها تبحث فى إعادة قانون الطوارئ، فقد كانت الداخلية فى وحشة من غياب هذا القانون. ولا بأس أبداً أن تسوق الطوارئ الحديثة والجديدة بعد الثورة بأنها قد جاءت فى القرآن الكريم وأنها أمر ربانى يجب أن يخضع له الجميع، فالطوارئ التى رفضوها قبل ذلك فى موقف مسرحى شهير غير تلك التى يروّجونها بما لا يخالف شرع الله. فالأمر ليس أمر حكومة وحاكم استغفر الله -فالحاكم لدينا ليست له حقوق، عليه فقط واجبات- ومن ثم فإن المقصود الحقيقى من الدعوة إلى عودة الطوارئ هو خير الشعب كله!! ويجب على الشعب أن يشكر حكومته التى تريد له الخير، حتى لو كان الخير فى قانون الطوارئ. ولكن للأسف رفض الشعب هدية حكامه ورفض قانون الطوارئ. ولكن فى الحقيقة فإن الحكومة إدراكاً منها لمصلحة الشعب لم تيأس ولم تتراجع وبين الفينة والفينة فإنها تتحين الفرصة لكى تدشن إلى هذا الشعب قانون الطوارئ أو بعضاً منه بصورة أو بأخرى. وليكن إصداره فى شكل قانون ينظم التظاهر، ولا بأس من الاستشهاد بما يجرى فى أمريكا وأوروبا وكأن الديمقراطية فى مصر قد وصلت إلى ذات المحطات التى وصلت إليها فى هذه البلاد. فيجب الآن أن يتظاهر الشعب فى المربعات التى تحددها الحكومة، وبإذنها وتحت عينها وكأن كل مطالب الشعب قد تحقّقت وأصبح التظاهر ترفاً يلجأ إليه الشعب لكى يرفه عن نفسه. لقد نسوا أن مظاهرات الشباب التى تحوّلت إلى ثورة عظيمة هى التى أتت بهم إلى مقاعد الحكم الوثيرة التى احتضنوها وأصبحت حقاً لهم دون غيرهم، لا يشاركهم فيها إلا مَن يريدون، ومَن يسير على هواهم وأهوائهم. أما من يعارضهم فإنهم مخربون ومن يطالب بتحقيق أهداف الثورة متجاوزون فى حق الوطن وفى حق الشرعية.
إن المتأمل فى حال السلطة الجديدة فى مصر لا بد أن يتساءل عما تحدثه كراسى الحكم فى مصر بالحكام؟ ولماذا تُغيّرهم؟ ولماذا عندما يجلسون عليها يقولون كلاماً غير الكلام الذى كانوا يقولونه سابقاً؟ ولماذا يفعلون ذات الأفعال التى كان يبررها ويسوقها المستبدون؟
لماذا اختفت فجأة مطالب كانت على أولوية أجنداتهم وهم خارج إطار السلطة يعملون عكسها تماماً؟ أين مطلب تطهير الداخلية؟ هل تلاشى؟ وانتهى الأمر إلى تقوية وتدعيم نفس الداخلية بغاز متميّز أحس بتميزه وفاعليته كل من خرج للتظاهر فى 25 يناير 2013؟ لماذا كل هذا التطوير النوعى فى أجهزة الردع والقمع؟ ففى الوقت الذى تتحدث فيه الحكومة المؤمنة عن صعوبات اقتصادية كالجبال استدعت أن تقترح وقوف المصريين فى طوابير للحصول على قسمتهم التى حددتها بثلاثة أرغفة لكل مصرى فى اليوم الواحد وخمسة لترات من البنزين وغير ذلك، ذهبت هذه الحكومة لكى تدعم الداخلية لأول مرة فى مصر والشرق الأوسط -حسب علمى- كله بطائرات -نعم والله العظيم- بطائرات، لكى تكون أكثر سرعة فى القمع والسيطرة.
ما هذا الذى يحدث فى مصر المحروسة؟ ولماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ كل هذا بعد الثورة التى ما زال الكل يتذكر كمّ التفاؤل والحب والتسامُح والرحمة والأمل التى غمرت نفوس وأرواح وأجساد المصريين بعد 11 فبراير 2011. من الذى قتل كل ذلك فى نفوس المصريين؟ من الذى سار بهذا الشعب عبر مسالك ودروب وعرة كانت تستهدف الانقضاض على ثورته والالتفاف على أهدافها ومعاقبة هذا الشعب، لأنه تجرأ وثار؟
لقد تصوّر هذا الشعب أنه بعد أن ثار وأزاح كابوس الاستبداد أنه أزاحه إلى غير رجعة، ولكن اتضح أن ذلك غير صحيح على الإطلاق، فمنصات صناعة الاستبداد وإعادة إنتاج نفس النظام بذات الآليات وبذات الأفكار وبذات التوجُّهات وإن اختلف الأشخاص كانت تدور بكفاءة منقطعة النظير.
إن المشكلة الحقيقية التى تتضح يوماً بعد يوم هى أن هذه الثورة كانت ثورة شباب فى بلد شاخت فيه الأفكار والأشخاص. وأن الذين شاخوا وأصبحوا بلا فائدة، ولا يُرجى منهم فائدة، هم الذين تصدّروا المشهد تماماً وبغير حق ونحوا الشباب الذى ثار جانباً وأكلوا هذه الثورة وغسلوا أيديهم منها.
إننى أكتب هذا المقال وأنا أشاهد جلسة مجلس الشورى صباح يوم الأحد الموافق 27/1/2013. أقسم أنها ذات الأفكار التى كان يتم تداولها فى مجلس الشعب حين حدوث أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها. من يسمون أنفسهم نواباً عن الشعب يتهمون بعمومية فجة أن كل هؤلاء بلطجية ومأجورون وشواذ وفلول.
نفس الكلام!! نفس الأسطوانة!! إنهم لا يتعلمون ولا يريدون أن يتعلموا. نفس المشهد يتكرر يوماً بعد يوم. فالسلطة بريئة كل البراءة والشعب هو المدان. والميادين أصبحت عبئاً على السلطة. والسلطة يجب أن تسحق الميادين. هذا حديث الإفك، وحديث من اختطف الثورة والسلطة ولم يقدم أى حلول لأى مشكلة حقيقية.
إننا أمام مشكلة حقيقية ليس حلها فى وصم كل هذه المظاهرات والاحتجاجات بالبلطجة، وكل الأوصاف المتداولة، التى يندى لها الجبين، والتى يقذف بها بعض مكونات هذا الشعب الذى يرى أنه يدافع عن حقه وعن ثورته، وسواء كان ما يراه صحيحاً أو غير صحيح لا يمكن أن يحل بالاستعلاء والتشويه والتخوين والتهميش.
إن الأزمة الخانقة فى مصر الآن يخطئ من يظن أنها مشكلة شعب لأنها فى حقيقة الأمر مشكلة سلطة ومفاتيح حلها هى بيد السلطة. والتى يجب أن تتخذ خطوات جديّة للانفتاح على كل مكونات الشعب. حوار يكفل الانتقال إلى نظام ديمقراطى يكفل تحقيق المصالحة الوطنية والشراكة فى ممارسة السلطة، أما العناد والمكابرة والاستعلاء وعدم الاهتمام وترك المشكلات حتى تترهل وحتى تستفحل، فهذا أمر لا يتصور أبداً أنه سوف يؤدى إلى حلحلة هذه الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
إن تبسيط المشكلة وتسويقها على أنها مشاكسة أو مناكفة أو مزاحمة لسلطة الرئيس المنتخب فى الحقيقة أمر غير صحيح. فلينظر السيد الرئيس لماذا انفض عنه كثير ممن انتخبه؟ ولماذا استقال مستشاروه؟ ولماذا أصبحت مناصب الدولة، وسلطتها حكراً على جماعته وأهله وعشيرته؟
فليسأل السيد الرئيس نفسه -فى لحظة صدق وصفاء- إلى ماذا أدت غزواته فى إصدار الإعلانات الدستورية المنعدمة والباطلة؟ وماذا أحدثت من انقسام وتقسيم لكل مكونات الشعب؟ وجعلته شيعاً وأحزاباً؟ وما المردود السياسى والاقتصادى والاجتماعى لكل ذلك؟
لقد كان المردود الحقيقى لكل هذه الممارسات البائسة، والمستبدة للسلطة، المزيد من الانقسام، والمزيد من الإحباط الذى سرى فى نفوس الجميع. عليك يا سيدى أن تترك مقر الرئاسة ساعة واحدة وتسير بين الناس وتنظر فى عيونهم لتكتشف كم الإحباط والاكتئاب والحزن والغضب الذى يعشش فى نفوس المصريين.
لقد تولّدت لديهم آمال عريضة وكبيرة بعد ثورة عظيمة، كل هذه الآمال تلاشت بعد الثورة. عليك يا سيدى أن تسأل أناساً مختلفين عما يحيطون بك، ويزينون لك الأمور، ويقولون لك إن كل هذا الشباب الثائر فى ميادين مصر هم من البلطجية والشواذ وناكرى الجميل. فليس من المتصوّر أن يتحول الشعب الذى أيّدك وهتف لك وفرح بك وتفاءل بك إلى هذه الأوصاف بعد ستة أشهر من حكمك غير الرشيد!! وماذا عساه أن يكون إذا طالت المدة؟
لا بد أن تعلم -سيدى الرئيس- أن كل ما يقال فى ذلك كذب فى كذب. وأن الغضب الذى يعتمل فى نفوس شباب هذه الأمة هو كالجبال سوف يأتى موجة بعد موجة. ودائماً علّمنا التاريخ أن الموجات المتتالية من الثورات أكثر دموية وعنفاً. إن الذى بيده الحل -من بعد الله عز وجل- هو من أستأمنه الله، ثم الشعب على السلطة. هو أنت سيدى الرئيس أنت المسئول أمام الله، وأمام الشعب عن وقف هذا الانهيار الذى يحدث كل يوم.
أين أنت سيدى الرئيس؟ الوطن يحترق ويتمزق والدماء الطاهرة لشباب من خيرة شباب هذا الوطن تسيل أنهاراً وسُحب الحزن تغطى الوطن وأغشية الكآبة تخيّم على نفوس المصريين وبيوتهم. يترقّبون طلتك وطلعتك وأنت ممسك عن أن تظهر حتى كتابة هذه السطور فى عصر يوم 27/1/2013. أرجو الله أن تظهر بعدها.
سيدى الرئيس -صحيح أننا لم ننسَ- أنه فى يوم من الأيام تحدثت إلينا ووعدتنا بوعود كثيرة، ولكن لم تفِ بها. وعدت بتوازن «التأسيسية» ولم تفِ. ووعدت بحكومة إنقاذ وطنى بشخصية وطنية سياسية مستقلة ولم تفِ. وأُتيت لنا بمجرد قنديل. وعدت بأن تأتى بالقصاص للشهداء ولكنك لم تفِ بذلك. وعدت باحترام استقلال القضاء وقُدت بنفسك أكبر غزوة لهدم هذا الاستقلال بما أصدرته من إعلانات دستورية. وعدت بأن تقيم حواراً وطنياً حول مشروع الدستور ولن تطرحه على الاستفتاء إلا بعد توافق الجميع عليه، ولكنك لم تفِ بذلك وطرحته على الاستفتاء فور أن لمسته بيديك.
ولكن فى هذا الظرف التاريخى الذى نعيشه لا بد من الفعل سيدى الرئيس. فلا خير فى سلطة لا تحمى شعباً، ولا قيمة لمنصب مهما علا يأتى على جثث المصريين ودمائهم. هل تريد سيدى الرئيس أن أذكِّرك بقول الرسول عليه الصلاة والسلام عند فتح مكة وحين نظر إلى الكعبة بيت الله الحرام قال روى عبدالله بن عمر رضى الله عنهما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول (ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به خيراً).
(رواه ابن ماجه وصححه العلامة الألبانى فى صحيح الترغيب 2/630).
فما بالك سيدى الرئيس غير مبالٍ بدماء المصريين التى تسيل ليل نهار. صحيح لقد قدّمت تعازيك إليهم عبر «تويتر» ولكننى أقسم لك أن «تويتر» لا يعرفه أغلب المصريين ولا يعلمون عنه شيئاً ولم تصلهم التعزية على العنوان الصحيح.
سيدى الرئيس إن دورك أكبر من أن تعزى. إنك مسئول عن كل ذلك. سواء أمام القانون أو أمام رب السماوات والأرض. فى يوم ترشّحك ويوم انتخابك قال لنا بعض مؤيديك يكفى أن تصرخوا «وااا مرساه» ولسوف يجيب، ولكن للأسف الآن الوطن يصرخ.. يبكى.. يئن.. ينفجر، ولا مجيب.. أين أنت يا سيدى؟ هل المشكلة فى هذا القصر المشيد الذى تحكم منه؟ ومن ثم يجب أن يكون بيت الحكم فى مصر أكثر تواضعاً حتى يدرك الحاكم آهات وأوجاع المصريين، أم فى البطانة التى تحجبك عن شعبك، أم فى مستشاريك الذين يخططون لك، أم فى جماعتك التى تستأثر بممارسة سلطة ليست لها؟
يا سيدى نحن انتخبناك أنت ولم ننتخب جماعة أو عشيرة. انتخبناك حينما سوّقت نفسك إلينا رجلاً بسيطاً من ريف مصر عاش أوجاعها وآلامها. أين ذهب كل ذلك؟ كيف يمكن لك أن تنام وهذه الدماء تجرى أنهاراً؟
سيدى الرئيس: إن الفرصة تفلت منك يوماً بعد يوم فأمسك بها لعلك تستطيع أن تصلح ما أفسده المفسدون حين استبدوا بممارسة سلطة لم تكن لهم، وعقدوا مشهداً لا يظهرون فيه إلا قليلاً، اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.. وأيضاً.. فإن التاريخ لن يرحم.
ملحوظة عزيزى القارئ: يقولون إن السيد الرئيس قد خطب ليلاً يوم كتابة هذا المقال، ولكنى لم أجد فى كلامه شيئاً يستدعى تغييراً فيما سبق كتابته فى هذا المقال، فكل ما قاله -كالعادة- يؤدى إلى تعقيد المشهد أكثر. وأكثر ما شدنى فى خطاب سيادته هو «صباع» السيد الرئيس، فهو يختلف عن «صباع» المجلس العسكرى.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.