الناس فى «إسطبل عنتر»: «أنقذونا.. قبل ما نندفن فى بيوتنا»
حياة بدائية يعيشها أصحاب العشوائيات
أسفل جرف صخرى شديد الانحدار يقبع آلاف المحشورين داخل منازلهم القديمة، يملأهم الخوف كل يوم من سقوط صخرى على رؤوسهم أو أن يُدفنوا أحياء تحت الأنقاض مع أى هزة أرضية شديدة. وعلى بعد أمتار قليلة منهم يجدون بقايا منازل سقطت من الجرف أو سقط عليها صخور الجبل الثانى فى منطقة إسطبل عنتر بمصر القديمة؛ إحدى أكثر المناطق العشوائية المهددة بالسقوط والانهيار.
رشا: «صحيت من النوم لقيت بنتى ميتة بقرصة عقربة».. وغريب: «موظفين الحى بيتوّهونا».. وشادية: «لما الحريقة بتقوم الحكومة ما تعرفش تنقذنا وبننقذ نفسنا»
يقسم الأهالى تلك المنطقة إلى قسمين، أولهما يسمونه «الجبل الأول» وهو عبارة عن تبّة ترتفع عن بقية المناطق المحيطة، أُقيمت عليها المبانى منذ عشرات السنين حتى اكتظت بالسكان المقبلين من صعيد مصر والمحافظات المختلفة بحثاً عن العمل فى القاهرة، حتى فكر المقبلون من الخارج وأبناء السكان الأوائل فى الانتقال إلى الأعلى، حيث «الجبل الثانى»، وهو تبّة ثانية تعلو الأولى بنحو 40 متراً أو 60 متراً فى بعض المناطق، وهى التى تشتهر بـ«الجبخانة» نسبة إلى إسطبل كبير أنشئ فى القرون الماضية واستخدمه الحكام فى تربية الخيول للجيوش ويضم بداخله سجناً كبيراً، يُشيع بعض الأهالى أنه يعود إلى عنتر ابن شداد، ولذلك سميت تلك المنطقة على اسمه «إسطبل عنتر»، على حد زعمهم.
داخل إحدى البنايات الصغيرة التى تطل على حافة الجبل الثانى بالمنطقة، تجلس رشا عبدالهادى، 27 عاماً، تطعم طفلتيها الصغيرتين «شهد وجنى» من زوجها الذى يقطن معها فى منزل أسرتها الذى لا تزيد مساحته على 25 متراً، ويضم غرفتين مساحة الواحدة منهما لا تتعدى 8 أمتار فقط، تشبه كل غرفة «السجن الانفرادى»، بينما يقع المرحاض أمام باب المنزل الصغير دون أن يكون له باب خاص. المشهد يبدو مأساوياً للوهلة الأولى، لكن الفقر وضيق الحال ليس ما يشغل بال من سكنوا هذه البناية الفقيرة، فهم يخشون سقوط تلك الحوائط المشروخة التى تحاصرهم من كل جانب. تقول رشا: «أنا راضية والله باللى ربنا كتبه بس خايفة البيت يقع علينا، ولما بتوع الحى ييجوا يبصوا علينا مش بنشوفهم تانى وبيتغيروا، ومهما رحنالهم ما حدش بيعبّرنا».
وتضيف: «مسئولو الحى جاءوا منذ عام وكتبوا بعض العلامات والأرقام على المنازل، ومرت الشهور وبلغت عاماً كاملاً من دون أى ترميم للبنايات أو نقل من فيها إلى مساكن فى مدينة بدر أو 6 أكتوبر»، مشيرة إلى أن من تم نقلهم منذ سنوات ذهبوا إلى مدينة 6 أكتوبر وأمّنوا حياتهم من خطر الموت أسفل الأنقاض، لافتة إلى أن المنزل سقط أحد حوائطه فى الشارع، وأصبحت الغرفة بها فتحات كبيرة تطل على الشارع الخارجى وأماكن تجمع القمامة، ما سمح بدخول الحشرات والثعابين والعقارب والفئران، متابعة: «بيدخل لنا تعابين وعرس وفيران وعقارب، وبنفضل نسد الحيطة بالخشب والقماش، وبرضو الحشرات بتدخل لنا»، ليس من هذه الفتحات فقط، بل تأتيهم أيضاً من سطح البناية وباب المنزل المطل على أزقة ضيقة يلقى فيها بعض الأهالى القمامة.
بسبب العقارب المُميتة فقدت رشا ابنتها كنزى قبل 3 شهور: «صحيت من النوم لقيت بنتى كنزى ميتة يوم الجمعة فى شهر يناير اللى فات، وكان عندها 7 شهور»، تدخل «رشا» إلى داخل غرفة لتأتى بشهادة الوفاة التى تم تحريرها فى يوم 9 يناير الماضى، مشيرة إلى أنها دفنت ابنتها فى مدافن زوجها فى منطقة السيدة زينب، لافتة إلى أنها أنقذت ابنتها الصغيرة الأخرى فى اللحظات الأخيرة حين شاهدت عقربة تسير عليها ونفضتها من على رقبتها، قائلة إن معاناتها اكتملت بسجن زوجها قبل شهرين بتهمة الاتجار فى المخدرات، بينما تعيش الآن مع طفلتيها ووالدتها العجوز من دون أى دخل، حيث تبحث عن العمل لتنفق على أسرتها.
وتتابع رشا: «رحت مكتب الشئون الاجتماعية علشان أطلع معاش قالولى لازم تستخرجى ورق من السجن عند جوزك، وأنا مش هعرف أمشى فى الإجراءات دى»، موجهة رسالتها إلى الرئيس السيسى والمسئولين: «إحنا ولاد البلد دى، ودمنا فى رقبة المسئولين وهنندفن صاحيين تحت بيوتنا، والناس بتاخد شقق فى المناطق الجديدة، مين الأولى، اللى ممكن يموت فى أى وقت، ولا اللى عايز يحسن مستواه».
فى شارع الهجانة الذى لا يزيد عرضه على مترين، يجلس غريب محمد محمود أسفل منزل رقم 18 مع أولاده الذين يلهون أمامه فى منزل مهدّم سقط العام الماضى وتحول إلى موقع يلقى فيه الأهالى القمامة ثم تسقط بعد تراكمها أسفل المنحدر لتتكوم فى شكل جبل يزن أطناناً من القمامة التى يزورها «النباشون» لاستخراج الزجاج والبلاستيك. يشير الرجل البالغ عمره 45 عاماً إلى أن منزله مهدد بالسقوط بعد أن سقط المنزل المقابل له على بعد مترين، ما تسبب فى شروخ كبيرة فى حوائط منزله وفى المدخل، ليهبّ فزعاً إلى مكتب الحى لإنقاذه، وتردد عليه طوال العام الماضى دون أى فائدة، وكل مسئول جديد يلغى كل الإجراءات التى اتخذها سلفه، ليبدأ مشواره من جديد فى كل مرة.
ويضيف «غريب»: «مسئولو الحى نصحونى بهدم منزلى، حتى يسهل إعادة ترميمه على نفقة الحى»، ما دفعه إلى هدم الطابق الثانى فقط وخشى أن يهدم الطابق الأول فلا يجد ملجأ له ولأسرته للعيش فيه، بعد أن فقد الثقة فى الحى، قائلاً: «هدمت الدور التانى علشان ييجوا ويكملوا لكن لو هدمت الدور الأول ممكن ما يجوش وأروح فين أنا وعيالى، أبات فى الشارع؟»، لافتاً إلى أن المنزل كان به أسرته الكبيرة، إخوته الأربعة ووالدته، لكنهم خشوا من سقوط المنزل وسكنوا فى غرف وبنايات أخرى بالإيجار، بينما رفض هو الخروج وآثر البقاء فى المنزل، قائلاً: «لو وقع أبقى مت واستريحت من البهدلة والتشرد».
وتضيف شادية فرغلى، 50 عاماً، إحدى السيدات اللاتى يسكنّ منطقة «الجبخانة»: «المنطقة مهددة بالسقوط خاصة أن مياه الصرف تتسرب إلى الصخور المقامة عليها المنازل، إضافة إلى مياه الأمطار»، مشيرة إلى أن المنازل تعج بالأطفال والنساء، مناشدة المسئولين التدخل وإنقاذ سكان المنطقة، حيث إن معاناتهم تزداد يوماً بعد يوم، مع زيادة الأبناء، موضحة أن الحوارى الضيقة تحول دون دخول سيارات الإطفاء والإسعاف.
وتحكى شادية أنه «من فترة البيت اللى جنبنا ولع وقامت حريقة وعربية المطافى ما عرفتش تدخل وبقينا نطفيها، واللى كانوا ساكنين اتحرقوا، وحتى عربية الإسعاف ما عرفتش تدخل تجيب المصابين واللى محروقين، ووقفت لهم على الدائرى اللى على آخر الشارع، والناس نقلوهم على ملايات وأنقذوهم من الموت، ولولا أهل المنطقة كانوا ماتوا».