"الوطن" تنشر نص كلمة شيخ الأزهر في احتفال كلية الطب باليوبيل الذهبي
شيخ الازهر
تنشر "الوطن" نص كلمة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر خلال احتفال كلية الطب بالأزهر باليوبيل الذهبي، وجاء نص الكلمة كالتالي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وأبدأ كلمتي بتهنئة كلية الطب بجامعة الأزهر وقادتها وأساتذتها والعاملين بها، في عيدها الذهبي الأول وأهنئكم –أيها الأساتذة الأجلاء! -على إنجازاتكم العلمية وخدماتكم الطبية الإنسانية التي قدمتموها ولازلتم تقدمونها للمصريين وغير المصريين، وبخاصة البسطاء والفقراء من شعب مصر، ومنهم من لا يملكون ثمن العلاج، بل منهم من تعجز جيوبهم عن الوفاء بأجرة المواصلات التي تحملهم إلى مستشفيات الأزهر .
ومن الحق والإنصاف والاعتراف بالفضل لأهله.. أن أسجل أنني سعدت أكثر من مرة، وأنا أسمع من المرضى الفقراء الذين شفاهم الله على أيديكم، ثناء جميلاً عليكم لما لاقَوْه من اهتمام وحسن معاملة في مستشفيات الأزهر، سواء على مستوى الخدمات الطبية والعلاجية، أو مستوى الخدمات الإدارية والمعاملة الإنسانية... وهذه شهادة أسجلها في بداية كلمتي هذه، شكرًا لمهارتكم العلمية الممزوجة بإنسانيتكم وأخلاقكم المهنية العالية، وثناءً عاطرًا على أريحيتكم الكريمة في معاملة المرضى ورعايتهم في مستشفياتكم، رغم ما نعلمه جميعًا من قصور ونقص في بعض التجهيزات، وما يبذله الأساتذة ومساعدوهم من مجهود إضافي مرهق، لتعويض هذا النقص ولتفادي ما قد يترتب عليه من آثار تنعكس سلباً على تقديم الخدمة الطبية للمرضى كما ينبغي ..
فهذا هو ما تمليه عليكم مهنتكم التي هي ألصق المهن قاطبة بعالم الضمير وأمهات القيم والفضائل والأخلاق، وهذا ما نعرفه من وظيفة الطب في التاريخ القديم والحديث حتى كان الطب عند القدماء المصريين قاصرًا على طبقة الكهان بحسبانهم الطبقة العليا في المجتمع، وأصحاب الحكم النافذ والكلمة المسموعة لدى أكبر الفراعنة، وقد ربط أبو الطب أبو قراط بين محبة الطب ومحبة الإنسانية، وجعل منهما وجهين لعملة واحدة، قال: "لا يكون طبيبًا من لا يحب الناس"، وقد روى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله : "صنفان لا غنى عنهما للناس: العلماء لأديانهم والأطباء لأبدانهم"، ويزيد فضل الطبيب بأن عنده أعزّ شيء لدى الإنسان وهو الصحة، بل الحياة، وأنه مهما دفعنا لطبيب أتعابه فلا نزال ندين له بالكثير.
ومن المؤسف أن هذا القول الجميل تحـول فيما بعد إلى تصوير كل من المعلم والطبيب في صورة الناصح الذي لا يسـدي نصحه إلا بمقابل.. وحفظنا في ذلك قول الشاعـر "إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيـبَ، كِلَاهُمَا لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا"، لكن لا تزال مهنة الطب – رغم ذلك- تزداد شرفًا وعلوًا بفضل محوريتها في حياة الإنسان وجسمه وعقله، حتى قالوا: "إن الطبيب إذا دَعي لولادة امرأة يكون له الحق – في الأحوال العسرة – في الانتخاب بين حياة الطفل أو الأم، حسب ما يترآى لذمته وعلمه، فله أن يفضل إنقاذ الأم وإعدام الطفل، كما أن له أحيانًا حق إجراء العكس، أي إنقاذ الطفل فقط إن كانت أمه في حالة يأس لا يُرجى لها من نجاة"، والطبيب هو الذي يعلن الحياة ويعلن الموت، وهذه السلطة لا توجد في يد أحد سوى الطبيب.
والذي يقرأ تراث العرب المسلمين في مهنة الطب يدهش كثيرًا من هذه العناية الفائقة التي أحاطوا بها وظيفة الطبيب بحثًا وتأصيلًا وشروطًا، وآدابًا وتحذيرًا، لا أكون مبالغًا لو قلت: إنني لم أعثر على مثلها وهم يتحدثون عن المهن الأخرى، كالخطابة والقضاء وآداب العالم والمتعلم والفنون الأخرى، على كثرتها وكثرة ما قالوه فيها وفي أصحابها، وكمثال واحد أكتفي به لضيق الوقت فإن كتاب أدب الطبيب لإسحاق الرهاوي، الذي ألَّفه قبل ألف ومائة عام أفرد أبحاثًا مطولة عن شرف صناعة الطب، وبيان شروطها بيانًا دقيقًا عجيبًا، ومن هذه الشروط ما يتعلق بالخَلْق ومنها ما يتعلق بالخُلق، وأن من الشروط الخلقية للطبيب أن يكون حسن الوجه جيد الصحة سليم الجسد نظيف الثوب... إلخ هذه الأوصاف الظاهرة، أما ما يتعلق بالخُلق فحدث ولا حرج، فلقد أفاض علماؤنا في بيان شروط الطبيب الخُلقية وفي مقدمتها: الرحمة بالمرضى وبخاصة: الفقراء، والصبرُ على المريض وحسن الاستماع له حتى آخر كلمة من كلامه، وقالوا: "مهما كان كلام المريض مطولًا فلا يخلو من فائدة، ورب لفظ واحد سهَّل على الطبيب الوصول إلى معرفة حقيقة المرض وتعيين الدواء المناسب"، وقالوا: "يجب على الطبيب أن يمد يد المساعدة للمرضى الفقراء، وإلَّا كان مهملًا في وظيفته غير جدير بمنزلتها السامية".