«ارمى على غيرك» الدولة بالنسبة لنا: «بابا.. وماما.. وأنور وجدى»
صورة أرشيفية
تستقبل الوزارات المصرية والهيئات التابعة لها آلاف الشكاوى من المواطنين شهرياً، بعضها جاد والآخر مجرد شكوى كيدية أو عادية مثل شكوى الموظفين ضد بعضهم البعض، أو شكوى المواطن منهم بسبب مشادات أو اختلافات عادية تصل إلى حد التهديد بالنقل. وتتركز غالبية الشكاوى فى قطاع النقل، حسب مصدر مسئول داخل الوزارة رفض ذكر اسمه، فى تثبيت العمالة المؤقتة بالشركات التابعة لهيئة السكة الحديد، من الذين مضى على تعيينهم 3 سنوات، بالإضافة إلى شكاوى عدم انتظام حركة تشغيل ووصول قطارات السكة الحديد فى مواعيدها، خاصة قطارات الخطوط الداخلية بين المحافظات.
البحيرى»: أى اختلاف فى الرأى يتحول إلى شكوى كيدية.. ونحن «لا يعجبنا العجب ولا الصيام فى رجب»
وفى قطاع الرى والموارد المائية، يقول المهندس وليد حقيقى، المتحدث الرسمى باسم وزارة الموارد المائية والرى، إن مكتب الشكاوى يبحث كافة الشكاوى المقدمة من المواطنين ويدرسها ويوجه المسئولين المختصين فى الوزارة لحلها والرد على من قام بتوجيهها، سواء بالبريد العادى أو عن طريق الإنترنت، من خلال الصفحة الرسمية لوزارة الموارد المائية والرى على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك». وأضاف أن أغلب الشكاوى المقدمة من المواطنين، بالإضافة إلى خلافات بين الموظفين ومرؤوسيهم أو بين بعضهم البعض.
تقول ريهام البحيرى، 40 سنة، من الجيزة، وحاصلة على بكالوريوس تربية: «رغم تقديم المواطنين عشرات الشكاوى الجادة التى لا تجد استجابة من المسئولين والحكومة، فإنهم يشكون أحياناً من أمور غير مفهومة وغير جادة، مثل تقديم شكاوى كيدية ضد بعض الموظفين أو المدرسين لمجرد الاختلاف معهم فى الرأى، أو حدوث مشادة بينهم، بعد أن يتوعد الموظف «أنا هوريك وهشتكيك فى الوزارة» وقد تتسبب الشكوى أحياناً فى نقل الموظف من مكانه بسبب شكوى واحدة ضده من مواطن مسنود». تضيف ريهام قائلة «المصرى معروف بأنه دائم الشكوى عمال على بطال، بسبب وبدون سبب، ما بيعملش زى الصينيين اللى بيقولوا فكر فى حل المشكلة الأول وبعدين اتكلم فيها واشكى براحتك، وتستطيع أن تلمس ذلك فى كل وسائل المواصلات يشتكون حتى من الحر فى الصيف والبرد فى الشتاء، وكل سنة بيقولوا الجو برد قوى السنة دى أو الحر شديد قوى السنة دى، مع إنه بيكون كده كل سنة، نحن لا يعجبنا أى شىء.
«المهدى»: الهروب من المسئولية أبرز عيوبنا.. و«فايد»: الدولة أيضاً تشكو ولا تتحمّل المسئولية
وتتابع ريهام قائلة «فى المواصلات والاستراحات يتبادل المواطنون الشكوى ولا يشيدون بأى إنجاز حقيقى يتم على الأرض، وإذا حدث سيتهكمون عليه ويقولون فيه سرقة وفيه نصب أو إن الحاجة هتبوظ على طول، وسيظهرون أى عيب، كنوع من جلد الذات مثل مشروعات الإسكان الاجتماعى التى يتهافت عليها الناس الآن أمام مكاتب البريد، حيث يتم التشكيك فى جودتها وعدم تصديق شكلها الحالى الذى يظهر فى التليفزيون والصحف، صحيح فيه ناس مطحونة وطالع عينيها فى الشغل والحياة لكن لا يقومون بواجبهم تجاه الوطن أو المكان الذى يعيشون فيه، ممكن تلاقى سواق توك توك مثلاً بيشتم سواق ميكروباص عشان عدى من قدامه أو زنق عليه، ويقول عليه سواق غشيم ويشتمه بأقبح الشتايم، وهو نفسه بيمشى عكس الاتجاه، وبيكسر على الناس وبيخبطها، نفس الكلام سواق الميكروباص بيحسس اللى راكبين معاه إنه أحسن سواق فى العالم، لما بينتقد سواقة الناس اللى راكبة عربيات ملاكى، وتلاقيه هو بيمشى عكسى وبيسوق بطريقة سيئة جداً وبيتخانق مع الركاب وبيشغل الكاسيت على الآخر».
واتفق خبراء علم النفس الاجتماعى والباحثون على أن ظاهرة الشكوى التى تتميز بها الشخصية المصرية ناتجة عن الاضطرابات السياسية والفساد وتراجع التعليم والتذوق الفنى والثقافى وضعف الإنتاج وسيطرة شخصية «الفهلوى» على مظاهر الحياة فى مصر، وأن الإنسان الذى يكثر من الشكوى يلقى بالمسئولية دائماً على الحكومة وعلى غيره ولا يحمل نفسه أى خطأ.
ويقول الدكتور محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة، إن الإسقاط والتهرب من المسئولية من أهم الأسلحة التى تتزود بها شخصية «الفهلوى» لكى يزيح المسئولية عن نفسه ويلقيها على غيره من الناس، أو على ظروف خارج نطاق الذات تبرر ما يقع فيه من مواقف الخطأ أو التقصير، وهو ما يعرف فى علم النفس بوجهة الضبط الخارجية، حيث يعتقد الفرد أن أحداث حياته تمت بتأثير من الآخرين أو من الحظ، أو من عوامل لا يملك التأثير فيها أو تغييرها، وتزداد «الفهلوة» بازدياد القدرة على ممارسة هذه العملية النفسية، وبذلك لا يقوم «الفهلوى» بالعمل نتيجة شعوره الداخلى بالواجب ولكن بدافع الطمع فى الكسب أو الخوف من العقاب، وما يقوله ويفعله هو دائماً «لحاجة فى نفس يعقوب»، كما يصفها المصريون، وليس لتحقيق الذات بالعمل الاجتماعى المنتج، ربما يفسر ذلك المحاولات المستميتة لدى المصريين للتهرب من العمل، ويؤكد هذا الإحصائية التى بينت أن إجمالى الإنتاج لدى الشعب المصرى يساوى فى المتوسط 27 دقيقة عمل يومياً لكل فرد.
ويضيف «المهدى» فى بحثه الخاص بالشخصية المصرية قائلاً: «من مظاهر الإسقاط الواضحة كثرة الشكوى من الزمان والتبرم من كيد الآخرين وإلقاء التبعة فى كل مشكلة على الحكومة أو على البلد اللى من غير عمدة أو على الإدارة، أو أى قوة أخرى غير الشخص أو الجماعة المسئولة، وليس هذا من قبيل الأنانية لمجرد الأنانية، ولكنه تأكيد للذات من ناحية، وانصراف عن احتكاك الذات بغيرها من ناحية أخرى، مما يعرضها لمواقف تنكشف فيها حقيقتها، أو تذوب فيها شخصية الفرد فى شخصية الآخرين».
وعن علاج الظاهرة يقول «المهدى»: «يجب كشف أبعاد شخصية الفهلوى والبدء فى تكوين اتجاه سلبى نحوها فى وسائل الإعلام وفى المؤسسات التربوية والدينية، وعدم التسامح مع كل من يمارس أى سلوك فهلوى على المستوى السياسى بالتزوير أو التهليل أو النفاق أو اغتصاب الشرعية، مع كشف أنماط التدين الكاذب والكذب المتدين والتدين النفعى، ثم إعطاء الفرصة للتدين الأصيل أن ينمو بشكل هادئ وطبيعى، مع الارتقاء بالحس الفنى والجمالى لدى النشء، ذلك الحس الذى يجعلهم يرفضون القبح فى داخل نفوسهم وفى خارجها ويجعلهم صنّاعاً للجمال ومستمتعين به كقيمة سامية تضفى على الحياة جمالاً وبهاء ونظافة وطهراً واستقامة، بالإضافة إلى بناء الشخصية المنتجة».
وتقول الدكتورة سوسن فايد، أستاذ علم الاجتماع السياسى بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية: «المصريون يميلون إلى الشكوى الدائمة وإلقاء المسئولية على الآخرين، والشكوى من الأوضاع الداخلية ترجع إلى عدة عوامل أهمها حدوث فترة انتقالية لم يتم التعامل معها كما ينبغى على الوجه الأمثل أو فهمها بعد عقود طويلة من الفساد، والملاحظ أن المواطن المصرى متعجل التغيير ومتعطش للحرية والديمقراطية والشفافية والمحاسبة، وبجانب أن الشخصية المصرية تتسم بالذكاء الفطرى والصبر وطول البال، إلا أنها تتميز بالنقد والسخرية اللاذعة».
وتضيف «فايد» أن جينات الشخصية المصرية تتمتع بإدراك الفساد والنقد والبناء والتطور عند إتاحة الفرصة حيث يستطيع تقديم مقترحات جيدة، كما أن وجود المصرى على ضفاف النيل وعمله بالزراعة جعله يتكيف مع الحياة ويدرك الحلول، لكن بعض القيادات أياديها مرتعشة، وليس لديها قدرة على اتخاذ قرارات صائبة، ما أدى إلى تأخر الإصلاح والتراجع فى القرارات، مما ساعد على حدوث فوضى بالشارع المصرى، وفى ظل الارتباك الحالى والقرارات الخاطئة وتأخر عمليات الإصلاح ارتفع صوت المواطن بالشكوى لذلك فإن الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حاجة إلى مستشارين متخصصين فى علم النفس الذى تتعدد فروعه إلى تخصصات كثيرة، مثل الاستعانة بعلم النفس الصناعى لحل مشكلات العمال ومصانع القطاع العام ورفع معنويات العاملين حتى الوصول إلى درجة حب العمل والمصنع مثلما يحدث فى الصين الآن، والرئيس يحتاج إلى مستشارين متخصصين فى علم النفس السياسى لبحث إمكانية ومناقشة القرارات فى أوقات مناسبة».
وعن شكوى المواطن، التى تلقى المسئولية باستمرار على الدولة تقول «فايد»: «الدولة حمَّلت نفسها المسئولية الاجتماعية والصحية والتعليمية منذ عقود من الزمن حتى باتت مترسخة فى وجدان المصريين، لكن نحتاج إلى مفاهيم جديدة وإعمال للعقل وتوظيف الظروف للأفضل لحل المشكلات، وللأسف مفهوم المواطنين والمسئولين عن البحث العلمى فى مصر ينحصر فى البحث العلمى فى الصناعة والدواء والتكنولوجيا فقط، لكن البحث العلمى يمتد إلى الدراسات الإنسانية التى تهتم بالإنسان والثقافة والمعرفة وبغياب الاعتماد على الدراسات الإنسانية سيحدث ارتباك كبير لدى صناع القرار مثلما يحدث الآن».