الفقيه الدستورى د. جابر جاد نصار يكتب: مطبات تنظيمية مطلوب تسويتها قبل الذهاب إلى الانتخابات
خلصنا فى مقالنا السابق إلى افتقار العملية الانتخابية فى مصر إلى نظام انتخابى عادل للأسف الشديد وكان مرد ذلك هو إصرار الفريق الغالب والمغالب بالجمعية التأسيسية على وضع نظام انتخابى لصالحه وتحصينه بنص دستورى خاص وهو المادة 231 ومفاده تقسيم المقاعد ما بين القائمة والفردى بواقع الثلثين والثلث وهو النظام الذى ثبت عدم عدالته وإهداره لمبدأى المساواة وتكافؤ الفرص بين المرشحين.[Image_2]
وعلى الرغم من ذلك فإنه من الواجب فى نظرى مواجهة رغبة السيطرة والهيمنة لدى هذا الفريق السياسى بتقليل مخاطر العملية الانتخابية والعمل على ضرورة انتظامها والحد من مساوئها أخذاً بالقاعدة الأصولية التى تقضى بأنه مالا يدرك كله لا يترك كله. وهو ما يستدعى ضرورة مواجهة بعض المطبات التنظيمية التى تتصل بالعملية الانتخابية وتؤدى فى حالة إصلاحها إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه العملية حتى تؤتى بعض ثمارها فى تمثيل الشعب تمثيلاً صحيحاً. فالعملية الانتخابية لا يمكن لها أن تصح أو تصل إلى مستقرها ومستودعها وهى اختيار نواب يمثلون الشعب حقاً وصدقاً يعملون لمصلحته وفق نظام ديمقراطى إلا بتسوية هذه المطبات وتنظيمها بصورة عادلة.
ومن أهم هذه المطبات تقسيم الدوائر الانتخابية، والعتبة الانتخابية، ودور اللجنة العليا فى الرقابة، والمتابعة للعملية الانتخابية، والرقابة على عملية التصويت سواء من مندوبى المرشحين أو وكلائهم أو منظمات المجتمع المدنى وكيفية توزيع مقاعد البرلمان والفوز بها سواء بالقائمة أو الفردى. فهذه المطبات التنظيمية أو الفنية فى حقيقة الأمر لها تأثير كبير فى توجيه نتائج الانتخابات، فتنظيمها على وجه معين يؤدى فى الحقيقة إلى توجيه نتائج الانتخابات فى ذات الوجهة بحيث تؤدى -مع ما سبق وقررناه من الحرص على نظام انتخابى غير سليم وغير عادل- إلى ضمان أغلبية حاسمة للحزب الحاكم أياً كان اسمه أو رسمه.
أولاً: إشكالية تقسيم الدوائر الانتخابية.
تمثل الدائرة الانتخابية النطاق الجغرافى الذى تجرى فيه العملية الانتخابية لاختيار نائب أو عدد من النواب لشغل المقاعد المخصصة لهذه الدائرة. ويمثل تقسيم الدوائر الانتخابية مسألة أساسية ومهمة فى ضبط العملية الانتخابية. وهو علم له أصوله ومعارفه.
ودون الدخول فى تفصيلات معقدة فإن هذا التقسيم يجب أن يحترم تجانس الدائرة وعدالة التقسيم وخصوصية الجغرافيا حتى لا يترتب عليها تفتيت أوصال الدائرة بما يسهل السيطرة عليها. وقد كان تقسيم الدوائر الانتخابية مدخلاً أساسياً تحرص عليه أنظمة الحكم لترتيب أوضاع الانتخابات، بحيث تبتغى فى النهاية إضعاف المعارضة السياسية وحرمانها من الفوز فى الانتخابات. ولقد شهدت الانتخابات الأخيرة للبرلمان المنحل تقسيما بالغ السوء للدوائر الانتخابية، حيث تميز هذا التقسيم باتساع الدوائر بصورة لم يسبق لها مثيل فى الانتخابات المصرية، كما جرى فى الحقيقة تقسيم كثير من الدوائر بصورة تفقدها خصوصيتها فلم تعد دوائر الحضر كما هى بل اختلطت بدوائر الريف لا سيما فى الدوائر المخصصة للمقاعد الفردية التى تميزت باتساعها البالغ وهو ما مكن تيارا بعينه من الحصول على 95% من المقاعد الفردية بغير جهد يذكر.
وهو ما أدى إلى إهدار التنافسية على هذه المقاعد الأمر الذى ترتب عليه أن يفقد الانتخاب معناه وجدواه.
وعلى ذلك فإنه خروجاً من هذا المأزق يجب إعادة النظر فى تقسيم الدوائر الانتخابية بصورة علمية وأن يعهد بذلك إلى مختصين مستقلين، ومن ثم فإن التصريح الذى أدلى به السيد رئيس مجلس الشورى بأن الوقت غير مناسب ولا يتسع لتعديل الدوائر الانتخابية أمر غير مفهوم ويفقد الانتخابات جوهرها ويؤدى بها إلى أن تكون مسرحية هزلية لا قيمة لها ويجعل الاحتكام إلى الصناديق وهما كبيرا وهو ما يؤدى إلى انغلاق الأفق السياسى وهو شر يجب أن يعمل الجميع على عدم حدوثه. فالاستعجال فى وضع نظام الانتخاب والتعجل فى إجراء الانتخابات بغير ضمانات جدية لحريتها ونزاهتها وعدالتها سوف يدخل الدولة والمجتمع والشعب فى أزمة حقيقية وسوف تزداد معها الأزمة تعقيداً وهو ما يجب أن يفطن إليه أهل الحكم وعليهم أن يدركوا أن ضياع الفرصة تلو الأخرى ليس فى مصلحة أحد. فقد ضاعت فرصة التوافق على دستور يليق بهذا الشعب وضاعت فرصة وجود حوار وطنى جدى للخروج الآمن من الإشكاليات والأزمة التى تأخذ بخناق المصريين، فماذا بعد ذلك كله سوى الانفجار.
إن الانتخابات القادمة هى فرصة أهل الحكم -قبل المعارضة- للخروج من هذه الأجواء المأزومة لبرلمان يمثل جميع أطياف الشعب وثواره حتى تهدأ كل الجبهات ويتفرغ الجميع لبناء نظام ديمقراطى منشود ومأمول دون تحققه ثورة وثورات.
ثانياً: العتبة الانتخابية بالنسبة للقوائم.
فى الوقت الذى ينادى فيه الجميع بالعمل على ضمان تمثيل التيارات السياسية المتنوعة فى البرلمان لا سيما التيارات الثورية والتى ليست لديها خبرات كافية للتعامل مع العملية الانتخابية فضلاً عن عدم قدرتها المالية فى كثير من الأحوال لمواجهة الإنفاق الانتخابى والمال السياسى الذى تنفقه بعض القوى السياسية بغير روية أو حدود مع غياب المحاسبة والمراقبة فى كل شىء يتصل بالانتخابات المصرية فهى سداح مداح للأسف الشديد. نجد أن بعض الاقتراحات التى جرت فى الصحف ومن بعض الأحزاب الإصرار على وجود عتبة انتخابية تمنع بعض النواب أو الأحزاب من الوصول إلى البرلمان.
وفكرة العتبة الانتخابية التى تعنى اشتراط حصول القائمة أو المرشح حسب الأحوال على عدد معين من أصوات الناخبين أو نسبة معينة من هذه الأصوات سواء على مستوى الدائرة أو على مستوى الدولة كلها أمر مقصود به مواجهة تفتيت التصويت فى الانتخابات والتمثيل داخل البرلمان، مما يصعب معه تكوين أغلبية برلمانية لحزب أو مجموعة أحزاب فى البرلمان وهو ما يمكن أن ينعكس على الاستقرار السياسى وهو فى الحقيقة فرض لا يمكن تصوره فى الانتخابات المصرية، فالحمد لله لدينا حزب مهيمن ومسيطر يملك سلطات الحكومة -لاسيما بعد تعديلها- وأصبح أهله وعشيرته يملكون مفاتيح الصناعة الانتخابية التى تؤدى إلى هيمنته وحصوله على الأغلبية الغالبة والمغالبة ولذلك فإن هذه العتبة غير مقبولة ولا مطلوبة ومن ثم فإن اشتراطها إنما يؤدى إلى زيادة هيمنة هذا الحزب بصورة لا تتلاءم مع الواقع السياسى الذى يعيشه الشعب المصرى. ويجب ألا تقبل بها القوى السياسية.
ثالثاً: حدود وقيود الإنفاق الانتخابى.
يمثل الإنفاق الانتخابى باباً من أبواب الانفلات الانتخابى الذى لا حدود له وليس فى القانون المصرى ولا فى وسع أى سلطة ضبط تغول المال السياسى على العملية الانتخابية بصورة أصبح هذا المال فيها يتلاعب بنتائج هذه الانتخابات ويتعامل معها كسلطة قابلة للبيع والشراء والمقايضة وهو أمر تجب مواجهته عن طريقين، الأول: يستدعى ضرورة وجود قواعد قانونية ضابطة وشفافة تحدد مصادر وحدود الإنفاق الانتخابى وإنشاء هيئة مستقلة تراقب هذا الإنفاق وتقدره وتحارب الرشاوى الانتخابية بصورة فاعلة، والثانى ترتيب جزاءات رادعة ضد هذا الفساد الانتخابى تصل إلى شطب المرشح والحزب الذى يتجاوز حد الإنفاق أو ينحرف بهذا الإنفاق بصورة تؤدى إلى تزييف إرادة الأمة ومصادرتها لصالح حزب معين.
إن ما حدث فى الانتخابات الرئاسية المصرية السابقة ومن قبلها الانتخابات البرلمانية التى تمت بعد الثورة من استخدام المال السياسى لإفساد الانتخابات مر بسلام دون حساب أو كلام وهو ما ينذر بخطر جسيم على التحول الديمقراطى فى مصر الذى لا يمكن أن يتم إلا عبر احترام وسائل هذا التحول. ذلك أن هذا التحول هو مفتاح أزمة الدولة المصرية وليس لها مفتاح آخر والإصرار على مصادرة حق هذا الشعب فى الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية لن يزيد هذا الشعب إلا إصراراً على استمرار ثورته حتى تحقيق أهدافها كلها ويخطئ من يتوهم مصادرة حق هذا الشعب فى ذلك أو تأميم أحلامه لكى يصنعها على عينه هو وليس على أعين الشعب.
رابعاً: تفعيل دور اللجنة العليا للانتخابات.
لا شك أن اللجنة العليا للانتخابات تتحمل عبئاً ضخماً فى الإعداد للعملية الانتخابية ومتابعة سيرها حتى إعلان نتائجها ولكن للأسف الشديد فإن النصوص القانونية التى تنظم عملها وكذلك الإمكانيات المتاحة لها قاصرة على أن تبلغ اللجنة هدفها فى صيانة العملية الانتخابية ومواجهة الخروقات التى تحدث إبان هذه العملية. وعلى ذلك فإنه يجب علاج هذه المشكلة تنظيمياً وبالقانون بحيث يحدد القانون وبجلاء الحالات التى يبطل فيها التصويت بحيث يسهل على اللجنة تطبيقه دون أن تكون لها سلطة تقديرية فى ذلك. ومن ذلك مثلاً فتح اللجان متأخراً عن موعده أو غلقها دون الميعاد المحدد قانوناً، أو عدم تحقيق الإشراف القضائى على هذه اللجان، أو العبث بالصناديق بصورة أو بأخرى وغير ذلك كثير من الفروض التى تؤدى إلى التأثير فى نتائج الانتخابات.
إن تفعيل دور اللجنة العليا للانتخابات فى الرقابة والمتابعة وتمكينها من ذلك فعليا عن طريق إتاحة الوسائل المناسبة لها قانونياً سوف يؤدى إلى فاعلية هذه اللجنة ومقدرتها على مواجهة كل صور العبث بإرادة الناخبين. ولذلك كنا دائماً نطالب بضرورة وجود جهاز تنفيذى يتبع اللجنة وينفذ قراراتها ويكون مستقلا عن الإدارات الحكومية التى دائماً ما تكون منحازة لطرف على حساب طرف حين دوران عملية الانتخاب. إن بسط السلطات والإمكانيات للجنة العليا أمر بالغ الأهمية حتى تستطيع هذه اللجنة أن تمارس عملها بفاعلية، أما أن تقتصر سلطة هذه اللجنة فى العملية الانتخابية عن طريق الفاكس أو التليفون أو تلقى البلاغات فهو أمر غير كاف ولا يؤدى إلى النتائج المرجوة بل قد ينعكس بآثار سلبية على مجمل العملية الانتخابية والثقة بها.
خامساً: رقابة مؤسسات المجتمع المدنى على العملية الانتخابية.
مما لا شك فيه أن أى نظام مستبد يضيق دائماً بفكرة الرقابة، فالاستبداد يقتضى دائماً الإطلاق فى ممارسة السلطة. ولقد أثبتت مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر قدرة على الصمود والمواجهة لاستبداد الحكم سواء قبل الثورة أو بعدها. وهو ما يستدعى ضرورة الاستفادة من إمكانيات هذه الجمعيات والمؤسسات فى كبح جماح الاستبداد السياسى فى مصر. ومن أهم هذه الجوانب الرقابة على العملية الانتخابية ورصد مخالفاتها ومتابعتها. ولذلك فإن قانون الانتخابات لا بد أن يعالج دور هذه المؤسسات والجمعيات بصورة أكثر إيجابية وليست عدائية.
ويجب أن يكفل هذا التنظيم ضرورة تفعيل دور هذه الجمعيات فى مراقبة الانتخابات بما يضمن التنسيق بينها والاستفادة من خبرتها. وفى ظنى يجب أن تمكن هذه المؤسسات والجمعيات من الرقابة المستدامة على عملية التصويت، بحيث يكفل لجمعية واحدة أن تمارس رقابة مستمرة بوجود مراقب عنها فى اللجنة بحيث تتوزع هذه الجمعيات على كل الدوائر الانتخابية دون تعارض أو تداخل.
أما اقتصار هذه الرقابة على مجرد المرور لخمس دقائق أو أكثر أو أقل فإنه غير نافع ولا يحقق هدفه. فما بالك أن الكثير من رؤساء اللجان أو ممثلى الحكومة فى اللجان أو أمامها يعاملون هذه المنظمات بصورة عدائية.
إن تعظيم دور المجتمع المدنى فى الرقابة على العملية الانتخابية أمر بالغ الأهمية ويجب أن ينظمه القانون بصورة واضحة وقوية، ذلك أن هذه الرقابة هى البديل الأكثر قبولاً من فكرة الرقابة الدولية على العملية الانتخابية وذلك لن يتأتى إلا بتصالح السلطة مع هذه المؤسسات وتقبل دورها الاجتماعى والحقوقى الذى يبتغى تمكين الشعب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً عبر إطار ديمقراطى. إن العداء غير المبرر الذى تختزنه السلطة الجديدة فى مصر تجاه هذه المنظمات غير مفهوم ولا مبرر، حيث كانت هذه المؤسسات والمنظمات السند الأساسى لجماعتهم حين كانت محظورة ومن ثم فإن العداء البادى لهذه المنظمات وكذلك وسائل الإعلام المستقلة غير مفهوم ولا مبرر إلا فى إطار إصرار هذا الحكم على الاتجاه بالدولة والشعب إلى الاستبداد، نحن والكثيرون يرون أنه لن يكون أبداً.
وتتصل بذلك أيضاً ضرورة تفعيل دور وكلاء المرشحين ومندوبيهم فى الرقابة على العملية الانتخابية وتسهيل وجودهم فى اللجان الانتخابية.
ومن ثم فإن وضع القيود على حرية المرشح فى اختيار وكلائه أو مندوبيه بأن يكونوا من ذات الدائرة الانتخابية فذاك تضييق على المرشح لا معنى له ولا داعى له. فيجب ترك الحرية للمرشح فى اختيار هؤلاء المندوبين أو الوكلاء.
سادساً: توزيع المقاعد على القوائم.
تمثل مشكلة توزيع المقاعد على القوائم الحزبية أهمية كبيرة لاسيما ما يتعلق منها بالمقاعد المتبقية، حيث يعمد الحزب الحاكم فى سبيل سعيه إلى تحقيق أغلبية داخل البرلمان إلى التحايل للاستحواذ على هذه المقاعد ولذلك فإنه يبتكر وسائل منحرفة للحصول على هذه المقاعد، حدث ذلك فى انتخابات القائمة فى مصر 1984 حيث كان الحزب الفائز بأغلبية المقاعد يحصل على المقاعد المتبقية وهو ما كان يضمن للحزب الحاكم آنذاك الاستيلاء على أغلب مقاعد البرلمان. والصحيح أن توزيع المقاعد المتبقية يجب أن تكون للقائمة الحاصلة على أكبر البواقى بعد توزيع المقاعد حسب المعامل الانتخابى المأخوذ به وهى طريقة سهلة وبسيطة وعادلة وموضوعية ومن ثم فإن الحيد عنها يمثل انحرافاً فى التنظيم يقصد به محاباة الحزب الحاكم.
تلك كانت أهم المطبات التى تؤدى إلى الانحراف بنتائج الانتخابات، بحيث لا تكون معبرة عن الشعب تعبيراً جيداً أو ديمقراطياً وهو ما يستدعى مواجهتها بتنظيم قانونى واضح وقاطع حتى تصبح المنافسة الانتخابية لها محل، وبغير ذلك تصبح الانتخابات مجرد ديكور زائف لاستبداد محقق سبق وسماه المرحوم الدكتور/ عصمت سيف الدولة الاستبداد الديمقراطى وهو أسوأ أنواع الاستبداد. ولكننا نقول لمن ينشدونه الآن ألا بعداً لكم فلن تستطيعوا.
«والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل»
التاريخ لن يرحم