عاطف بشاى يكتب: أوراق سرية فى العيادة النفسية.. الشاعر يبيع ابنه فى ميدان التحرير
عاصرت الشاعر والمخرج المسرحى الكبير الراحل «نجيب سرور» الذى كان يملأ الدنيا فناً وتوهجاً وصخباً وجنوناً فى منتصف الستينات وفى سبعينات القرن الماضى، ويخوض معارك أدبية وفكرية وسياسية نارية وجسورة.. متحصناً بضمير يقظ شفاف، ومستخدماً قلماً حاداً لاذعاً كأسنّة الرماح.. يهتك به أستاراً من الزيف والكذب والنفاق، ويسخر فى هجاء قاسٍ من نماذج بشرية شوهاء. وكنت أجالسه أحياناً بمقهى «ريش» فيأسرنى بعطفه الفياض ويحن علىّ دون أن أطلب بأن يزكينى لدى رؤساء تحرير المجلات الراسخة وقتها مثل «الكاتب» و«الطليعة» لينشروا لى بعض المقالات وأنا مازلت فى العشرينات من عمرى.
وعلى مقهى «ريش» أدار عينيه فى الجالسين حوله من بعض المثقفين الأصدقاء وانهال عليهم بالهجاء المرير الذى كان يصور من خلاله حالة الفصام الفكرى التى يعانى منها من يكذبون ويخادعون ويتلونون ويتحولون ويرتدون الأقنعة ويحتالون ويدّعون الصدق والإخلاص ونقاء السريرة وثبات المبدأ وطهارة المقصد.. وقد ظهر هذا الهجاء بأبدع ما يكون فى قصيدته (برتوكولات حكماء ريش) التى يصف فى ديباجتها النقاد «سحالى الجبانات» والشعراء والقصاصين بأنهم هواة البحث عن الشهرة والخبراء بكل صنوف الأزمات.. ويتكلم باسمهم فينصح المتلقى إذا أراد أن يتشبه بهم ألا يقرأ شيئاً.. يكفى أن يكون «حمال حطب» فيحمل طن كتب ويضعه بجانب قنينة بيرة ويشرب ولا يقرأ.. وإذا قرأ يجتهد ألا يفهم شيئاً مما يقرأ «ليس يهم اليوم الفهم/ فالمفهوم اللامفهوم/ أو بالعكس/ لن يسألك أحد معنى قولك/ فالمفروض اللامعنى للأشياء وللكلمات». وفى (البروتوكول الثالث) ينصح بعدم الصمت، فالصمت جهالة والثرثرة الجوفاء فضيلة، لكن على المتحدث الأُلعبان أن يحذر فى الوقت نفسه أن يتكلم فى لب الموضوع المثار.. المهم الشكل.. المظهر لا المضمون «لتأخذ سمت الأستاذ/ وحذارِ أن تنسى البايب والكلمات اللاتينية/ قل فى الواقع واصمت لحظة/ قل ولا شك/ واصمت لحظة/ ثم مقدمة محفوظة فى فذلكة المنهج/ حسب الموجة والتيار/ فالبحر سباق/ والموجات ألوف».
«ونجيب سرور» (1923 - 1978) خريج معهد التمثيل (1956) وفى أواخر عام (1958) سافر فى بعثة إلى الاتحاد السوفيتى، حيث درس الإخراج المسرحى وعاد إلى مصر (1964) حيث شهدت القاهرة فترة ازدهار إبداعاته المسرحية والشعرية والنقدية.. وفى فترة السبعينات عانى ظروفاً مأساوية، فقد اضطُهد وجاع وتشرد وطورد وفُصل من أكاديمية الفنون، حيث كان يعمل أستاذاً للإخراج والتمثيل وأُدخل عدة مرات إلى مستشفى الأمراض العقلية.
يقول عنه صديقه الحميم الروائى «عبده جبير»: «كان نجيب سرور أكثر البشر حساسية ورفاهية.. كما كان يحب مصر إلى حد الهوس».. ولعل تلك الحساسية بالإضافة إلى الضغوط السياسية والاجتماعية التى تعرّض لها هى التى أدت به إلى غياب العقل.. فكلما كان صاحب النفس أكثر رهافة أصابه نصيب من الجنون.. والحالة هنا أقرب إلى «الفصام» الذى يتمثل فى اضطراب علاقة المريض بالعالم الخارجى مما يجعله يعيش عالماً خاصاً مليئاً بالخيالات.. ومن ثم اضطراب الإدراك الحسى والإدراك الواعى واضطراب الشعور والانتباه والتفكير الذى يتجلى فى الإسقاط والهذاءات وعدم تمييز الواقع وكثرة الهلاوس وانعدام التوافق بين الانفعال والسوك.. وربما يتأكد لنا ذلك من خلال واقعة يشهد عليها «عبده جبير» حيث يقول: فى ميدان التحرير رأيت نجيب سرور يقوم بأداء عرض مسرحى كامل ممسكاً بيد ابنه الصغير ويصيح: ألاؤنا.. ألا ترى، مين يشترى الورد منى.. وتذكّرت أننى حينما رأيته منذ ليال مضت على خشبة وكالة الغورى يقوم بالتمثيل فى مسرحية «أوكازيون» أحسست ساعتها بأن مساحة المسرح ضيقة على هذا الممثل العبقرى.. وهأنذا أراه وقد وجد الحل: التمثيل فى أكبر ميادين القاهرة.. فهذا هو المكان الوحيد الذى يمكن أن يستوعب هذه الطاقة الجبارة. وقد كانت هذه هى الفكرة التى بنيت عليها مقالتى حين كتبت أرثيه مودعاً بعد ذلك بشهور قليلة.. لم يكن «نجيب سرور» وهو يعرض ابنه للبيع يعبث.. بل إنه أراد أن يقول للجميع: هذه هى الخشبة الوحيدة التى يمكنها أن تستوعب موهبتى الكبيرة..
كان الجمهور يعرف بالطبع أن هذا هو «نجيب سرور» الممثل العبقرى.. الكاتب والشاعر.. لذا فقد رأيت الدموع فى عيون الناس.. وهم يتابعونه فى شغف.