إهمال في "سوق السلاح".. "السحالي" تسكن البيوت والمواطنون "مبيشوفوش الشمس"
الحاج منصور علي
عند مشاهدة المسلسلات التي تحدّثت عن أحياء مصر القديمة، مثل الدرب الأحمر أو الجمالية وغيرها، لن تجد على أرض الواقع من معالمها الحضارية من الأسبلة والآثار الإسلامية التي تتحدث عن تاريخ عريق، فلم يتبق منها سوى أطلال، أبواب المنازل ونوافذها الخشبية المشبكة ذات اللون البني تهالكت.
ويتعبر "سوق السلاح" من أهم شوارع الدرب الأحمر التي تمثل تاريخًا عريقًا لمصر في عصر المماليك حيث يعود تاريخه لـ700 عام، وفي أحد الشوارع الضيّقة المتفرعة منه تجد منازل متراصة بجانب بعضها بعضًا ذات مساحة ضيقة تتكون من حجرة ودورة مياه مسقوفة بالخشب، وأمام إحدى تلك الحجرات يجلس الحاج منصور علي، أحد أهالي المنطقة.
الحاج منصور: "مش عاوز حاجة غير إني أعيش آخر أيام عمري زي البني آدمين"
بصوت مرتعش يغلب عليه الحسرة والضيق، يقول الحاج منصور: "مش عاوز حاجة غير إني أعيش آخر أيام عمري زي البني آدمين وأسكن في شقة، رطوبة الأوضة اللي عايش فيها هتموتني، عاوز أشوف الشمس".
الحاج منصور أب لـ9 أولاد، عربة الفول هي مصدر رزقه، يقول: "بروح أقعد عند كل واحد من أولادي يومين، هما ساكنين في دار السلام والبساتين وبولاق الدكرور، ومراتي كل يومين في المستشفى مريضة بفيروس سي، بضايق لأني عايش عالة على أولادي، أنا مستحقش حاجة، اللقمة اللي بأكلها أحفادي أولى بيها".
في الحجرة التي يعيش فيها "منصور"، علّق لافتة من الكرتون كتب عليها "اللهم يا فارج الهم وكاشف الغم"، إلى جانبها دق بعض المسامير في حائط متهالك علق عليها ملابسه، وعلى رغم سوء الوضع الذي يعيشه فالابتسامة لا تفارق وجهه.
يروي منصور (70 عامًا) حياة سكان منطقة الدرب الأحمر في فترات سابقة: "زمان كان كله خير، الناس بتحب بعضها من قلبها، ما فيش حاجة اسمها بيتي وبيتك، كلنا بناكل من طبق واحد، لكن دلوقتي الناس اتغيرت وأخلاقها، وناس كتيرة سابت المنطقة وقليلين الموجودين دلوقتي".
ويضيف: "يوم بعد يوم كل حاجة بركتها بتقل"، متسائلًا: "هو الجنيه دلوقتي زي زمان؟"، ليستطرد في حديثه: "أفضل فترات حياتي كانت الخمسينيات والستينيات، حتى بعد حرب 1973، كنا عارفين نعيش وبناكل وعايشين وبنربي أولادنا، بالرغم أن كان في حرب".
وبروح فكاهة وابتسامة يقاوم عم منصور ظروف معيشته الصعبة، ويقول: "يالا أهو أحسن من سوريا والعراق برضه".
وفي الحجرة المقابلة لغرفة منصور، يسكن "سعد محمد"، الذي تزوج وعاش بالمنطقة منذ 50 عامًا، ويقول: "المكان هيتهد فوق دماغنا، ده غير الحشرات والسحالي بنتعامل معاها كأنها بني آدمين عايشة معانا، لأن الأسقف من الخشب، بس هنروح فين؟، منقدرش على إيجارات الشقق الجديدة، وجاي لنا قرارات إزالة من الثمانينيات، لازم الحكومة تراعي ظروفنا".
يشير سعد لإحدى العمارات القديمة التي تقع خلف المنطقة التي يسكن بها، بابتسامة يغلب عليها التهكم والسخرية: "ممكن نلاقي أكياس زبالة بتترمي علينا من فوق"، تقاطعه الحديث زوجته، قائلة: "الحكومة برضه مش مهتمة بالخدمات في المنطقة، السكان مش بيلاقوا حد ياخد منهم الزبالة بيرموا علينا، والصرف الصحي اللي بيبهدل الشوارع ويدخل بيوتنا".
بجانب تلك الحجرات، تصعد عدة خطوات على سلم خشبي لتجد ورشة أحذية صغيرة لا تتعدى مساحتها المترين، تتراص الأحذية على أحد الرفوف، وقطع الجلود متناثرة بكل مكان، وأدوات التقطيع اللازمة في الصناعة، وهي ورشة "عم حسن" الذي يقول: "الدرب الأحمر بالنسبة لي روحي والنفس اللي بتنفسه، لو خرجت لمنطقة عابدين أحس إني مخنوق، زي السمكة لو خرجت من المياه تموت".
بين جملة وجملة لسانه لا يردد سوى "الحمد لله أحسن من غيري"، ويضيف: "أنا بالرغم الحال اللي إحنا فيه وبيوتنا اللي ميدخلهاش شمس، لكن راضي الحمد لله"، ويضيف: "كفاية عندي محامية وأولادي كلهم تعليمهم عالي، عايشين زي الفل ومتجوزين".
وبالنسبة لـ"عم حسن" فزيارة أولاده في منازلهم في المناطق التي يسكنون بها خارج منطقة الدرب الأحمر، تعتبر ترويحا عن النفس، "في الإجازات بروح أزور أولادي أقعد معاهم وألعب مع أولادي وأقعد في البلكونة وأشم هواء".
منطقة الدرب الأحمر بها العديد من ورش الأحذية، فتلك المنطقة تمثل أصل صناعة "القبقاب" في العصور القديمة، التي تطورت لأحذية فيما بعد، ويقول عم حسن: "أنا بشتغل في اليوم 18 ساعة، أتعب لو يوم عدى عليا من غير شغل، أنا بقى لي 4 سنين مبقعدش على قهوة، بيتي تحت ورشتي، ومش عاوز حاجة تانية".
ويضيف: "أنا بصحى الصبح سعيد وفرحان باليوم الجديد، متأكد إني هتعب وربنا هيرزقني ويكرمني، كفاية إني بصحتي وربنا مقدرني أشتغل وأصرف على بيتي، وأولادي وأحفادي بخير، هحتاج إيه تاني من ربنا؟".
ويضيف مستنكرًا نغمة حديث الكثيرين الذين يعانون من عدم وجود فرص للعمل، قائلًا: "ما فيش حاجة اسمها البلد وضعها وحش، وما فيش شغل، اللي عاوز يشتغل ويكسب لقمة عيش هيعيش، إنما لو استنينا الحكومة والوظيفة وقاعدة المكتب يبقى مش هنعيش"، ثم يشير إلى أحد أولاده الذي يعمل معه في الورشة "ابني متعلم وملاقاش شغل، واشتغل معايا واتجوز وفاتح بيت وعايش الحمد لله".