من المؤكد أننا حين نحتفل اليوم ٢٥ أبريل بالعيد الثانى والأربعين لتحرير سيناء، فإن له هذا العام مذاق المرارة والألم، لما أنهك قلوبنا وإنسانيتنا، ونحن على مدى سبعة أشهر نشاهد دماء أشقائنا فى غزة تسيل على يد مغتصب حاقد، انتزعت منه كل معانى الإنسانية، لكننا حين نشعر بكل هذا الألم والمرارة نتأمل أيضاً، متسائلين: ماذا لو كانت بقية الأطراف العربية قد شاركت مصر رحلة السلام، فمن المؤكد أن أوضاعاً كثيرة كانت ستتغير، ونتائج أكبر كانت ستتحقق. وما كان الآن لحكومة هزيلة مثل حكومة بنيامين نتنياهو فرصة فى الحكم.
لقد حاول الرئيس الراحل محمد أنور السادات، محاولات كثيرة حتى يكون السلام شاملاً لكل المنطقة العربية، وحاول أن يتقدّم خطوات نحو حل القضية الفلسطينية، لكنه كان دائماً ما يُقابل باتهامات بالخيانة والعمالة والخروج على ثوابت الأمة العربية، هذا الزعيم الكبير الذى سبق عصره وقفز بخياله إلى المستقبل، واضعاً مصلحة وطنه نُصب عينيه، متجاهلاً كل دعاوى التخوين والعرقلة والإحباط، ومتجاهلاً ادعاءات سقط أصحابها من سجل تاريخ العظماء، بينما ظل هو حتى يومنا هذا نترحّم عليه وعلى ما قدّمه لوطنه، ونتمنى لو عاد الزمن إلى الوراء ليُحقّق ما فشل كل من زايدوا عليه وخونوه فى تحقيقه، لقد كان زعيماً وطنياً بجدارة، لكن أقزام الحكام العرب شوهوا إنجازه الأعظم حتى لا يُفتضح فشلهم، بينما هو فى الحقيقة واحد من أهم زعماء مصر.
شاهدت منذ عدة أيام تسجيلاً نادراً للقاء تليفزيونى مع الرئيس الأمريكى الراحل ريتشارد نيكسون، وهو الرئيس السابع والثلاثون فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تولى رئاستها فى الفترة من يناير ١٩٦٩، وحتى أغسطس ١٩٧٤، يقول فيه: إن الرئيس السادات هو الرجل الوحيد الذى تحدّث عنه ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين فى رحلة طيران طويلة من واشنطن إلى القاهرة، للمشاركة فى جنازته، كانت الرحلة أكثر من عشر ساعات، ولأول مرة كنا وحدنا بدون أسرنا، فكانت لدينا فرصة كبيرة للحديث طوال الليل، وكانت المرة الأولى التى نتحدّث فيها، وكان حديثنا عنه، وقد اتفقنا جميعاً على أنه واحد من أكثر الرجال الذين قابلناهم ذكاءً، وأكثرهم جرأة وشجاعة، وأنه كان صاحب رؤية عظيمة جعلته يتخطى مشكلات عصره وينظر إلى المستقبل.
وأضاف أيضاً الرئيس نيكسون قائلاً: لكننى كنت أعرفه أيضاً من منظور آخر، لم يكن الرئيسان «فورد وكارتر» يعرفانه، فلم تكن تلك هى الجنازة الأولى التى أحضرها فى القاهرة، لكننى سبق وحضرت جنازة شاه إيران محمد رضا بهلوى، وكنت الوحيد صاحب منصب ممن شيّعوا هذه الجنازة.
فشاه إيران الذى كان الجميع ينحنى له، لأنه كان غنياً وقوياً، أصبح الجميع يتجنّبه، لأنه طُرد من السلطة، لن أنسى بينما كنت أقف فى خيمة العزاء وكان المعزّون فى مستوى السفراء وليس الرؤساء، اقترب منى الرئيس السادات ببدلته العسكرية، وشدّ على يدى مثمناً حضورى، فقُلت له لقد كنت أنت فى منتهى الشجاعة باستقبالك شاه إيران، بعد أن رفضت كل الدول منحه حق اللجوء، وتساءل «السادات» مُستنكراً: شجاعة؟ ليس من الشجاعة أن تقف إلى جوار صديق!
هذه هى أخلاقيات «السادات»، وتلك هى شجاعته التى دفع ثمنها غالياً، والتى ما زال العرب حتى اليوم يدفعون ثمن تخليهم عن مشاركته خطوته الشجاعة، التى أحرجت إسرائيل واضطرتها رغماً عنها إلى القبول بسلام حافظ على كل حبة رمل على أرض مصر.. رحم الله أنور السادات.