حكيت لك أن الإذاعة تعاقدت مع الشيخ محمد رفعت لمدة سنتين، ليلتزم بتلاوة القرآن الكريم مرتين فى الأسبوع، الاثنين والجمعة. واستطاع الشيخ عبر هذه التلاوات أن يربط المستمع المصرى بالقرآن الكريم برباط متين، لقد تلا القرآن من قبله كثيرون عبر أثير الإذاعات الأهلية، وتلاه من بعده آخرون، لكن أحدهم لم يستطع أن يلعب الدور الذى لعبه «رفعت» فى جعل القرآن جوهراً من جواهر حياة المصريين، ومصدرهم الأول فى التواصل مع دينهم، ناهيك عن أسلوبه البديع فى التلاوة والذى يدفع المستمع إلى تدبر معانى الآيات التى تخرج من «قلب متدبر».
كان الشيخ يقيّم نفسه بصورة شديدة، موضوعية، ويعتز بها كل الاعتزاز، ويضعها حيث ينبغى أن تكون فى المقدمة، وذلك هو وضعه ومقامه، وكأنه فى ذلك يتمثل قول الله تعالى: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» كل التمثل. يشهد على ذلك موقفه حين تعاقدت الإذاعة مع الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، قبل شهرين من مدة انتهاء عقد الشيخ «رفعت» معها، وقبض «الشعشاعى» الأجر نفسه الذى يحصل عليه «رفعت». هنالك غضب الشيخ رفعت -كما يحكى عبده فراج، زوج ابنته، فى حواره مع محمود الخولى فى كتاب «أصوات من نور»- نتيجة تلك المساواة، وكانت وجهة نظره أن الشيخ «الشعشاعى» أحدث منه، فكيف يتساوى معه فى الأجر؟ انتظر «رفعت» حتى انقضت السنتان (مدة التعاقد) وطالب برفع أجره إذا كانت الإذاعة تريد التجديد معه، وافق سعيد باشا لطفى، مدير الإذاعة، على ذلك، فما كان من الشيخ «الشعشاعى» إلا أن طالب هو الآخر برفع أجره فى التعاقد الجديد فاستُجيب لطلبه، فغضب الشيخ رفعت غضباً شديداً، وشكا إلى مستر «فريكسون»، المدير البريطانى للإذاعة الأهلية، فلم يلتفت إلى طلبه، مكتفياً بقوله: «إحنا عندنا كله زى بعضه»، فما كان من الشيخ «رفعت» إلا أن امتنع عن القراءة فى الإذاعة لمدة شهرين، فأثار هذا الأمر غضب محبيه وجمهوره الذى ربطهم صوته الندى بالقرآن الكريم.
يشير محمود السعدنى فى كتابه «ألحان السماء» إلى أن مستمعى الإذاعة أعلنوا ثورة كبرى حين وقع الخلاف بينها وبين الشيخ «رفعت»، ما أدى إلى امتناعه عن التلاوة عبر أثيرها، مكتفياً بتلاواته المجانية للبسطاء فى مسجد فاضل باشا، حتى إن بعضهم هدد بعدم الاستماع إلى الراديو، وهدد البعض الآخر بعدم دفع الضريبة إذا لم تخضع الإذاعة لـ«رفعت» العظيم. ولم يكن التهديد الأخير بالامتناع عن دفع الضريبة أمراً هيناً على القائمين على الإذاعة، إذ كانت تشكل المصدر الأهم لتمويل الخدمة الإذاعية، ويشير الدكتور خليل صابات فى كتابه «نشأة وسائل الاتصال» إلى أن مرسوماً ملكياً صدر عام 1926 يفرض على حائزى أجهزة الاستقبال دفع رسم سنوى قدره ثمانون قرشاً.
لم تكن المسألة بالنسبة للشيخ مسألة أجر، بل مسألة مقام ومبدأ وحق، فقد كان «رفعت» آخر من يهتم بالمال بعد أن سكن القرآن الكريم قلبه، وقد امتنع عن التلاوة فى الإذاعة التى كانت تدفع له المال، واكتفى بالقراءة المجانية لجمهوره وأحبابه فى مسجد فاضل باشا، ولو كان المال يشغل الشيخ «رفعت» أو يهمه لقبل الدعوة التى وجهها إليه «حيدر آباد» لكى يسافر إلى الهند ويمتع أهلها بتلاواته القرآنية مقابل آلاف الجنيهات (فى حينها)، لكنه رفض أن يترك تراب المحروسة ودفء الأسرة وخيط المحبة والألفة الذى اتصل بينه وبين أهل بلده على مائدة القرآن الكريم.