إسرائيل لا تريد القضاء على جماعة حماس وحسب، لكنها تريد القضاء على كل الفلسطينيين، وقتل وإصابة أكثر من مائة ألف فلسطينى من أهل قطاع غزة من الأطفال والنساء والرجال هو أكبر دليل، وإسرائيل لا تريد إقامة سلام عادل ودائم فى المنطقة، فلقد أضاعت فرصاً كثيرة للسلام، وكان من الممكن أن تُحقّق مكاسب هائلة من وراء هذا السلام تتجاوز كثيراً خسائرها من اختيار الحرب والعنف والقتل الذى تمارسه، وأصبحت عارية تماماً أمام العالم الذى طالما ساندها ودعمها وعمل على بقائها واستمرارها.
لكن المصيبة أن هذا العالم الذى يطلق على نفسه «حراً» لا يستطيع حتى اليوم أن يتّخذ موقفاً حاسماً من كل الممارسات الإسرائيلية الإجرامية، ولا نرى سوى تصريحات وشجب وإدانة، ولم نرَ الهمة والحماس اللذين رأيناهما عند ضرب العراق أو ليبيا، ولم نرَ المساعدات الهائلة التى ما زالت تتوالى على أوكرانيا، هذا هو العالم الذى يقف عاجزاً عن حماية عشرات الآلاف الذين يُقتلون ويصابون فى غزة، ومئات الآلاف الذين شُردوا من بيوتهم تحت القصف الإسرائيلى الغاشم على مدى خمسة أشهر ولا يزالون فى العراء، دون حقوق إنسان ولا منظمات دولية ولا حتى قوى عظمى، بل إنه حتى الآن ما زالت الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمد إسرائيل بالسلاح الذى تقتل به الفلسطينيين يومياً، ولا يستطيع أحد وقف ما يحدث، حتى إن الكونجرس الأمريكى وافق منذ يومين على إمداد إسرائيل وتايوان وأوكرانيا بالمساعدات!
هى إذن لغة المصالح، ولغة القوة المفرطة، ونظراً لأن إسرائيل تتمتّع بحماية دولية مطلقة رغم كل تصريحات الشجب والإدانة، ورغم كل الانتهاكات الإنسانية والدولية، ولأن العالم العربى لم يبق على حاله، ولأن الفلسطينيين قيادتهم شاخت ولا ذكر ولا وجود لها فى كل هذه الأحداث فلم يبقَ لهم سوى الله وحده، لقد أصبحت هذه هى الصورة المؤلمة التى نُطالعها فى كل يوم لمأساة تجاوزت مأساة النكبة فى ١٩٤٨، والجميع عاجز أمام هذا الجنون الإسرائيلى.
«نتنياهو» لن يُحقق نصراً حاسماً أبداً، فأى خطوة سيخطوها ستكون على جثث الأبرياء، والقضية الفلسطينية لن تموت، لأن لها شعباً لا يزال حتى الآن يتمسّك بوطنه وأرضه ويعلم أنه لو تركه فإنه لن يعود إلى الأبد ويكون قد قتل قضيته بيديه وحكم عليها بالنهاية المأساوية، والشعب الإسرائيلى بتكوينه المشوه لن يستطيع تحمّل استمرار خسائره فى الأرواح والمعدات وتوقف الحياة الطبيعية. والمنطقة والعالم كله سيظل يعانى من تطور هذه الأزمة حتى يجد لها حلاً حاسماً. والحل الحاسم لن يكون إلا بقوى متكافئة فى الصراع، وهذا التكافؤ لن يتوافر بغير توحّد الصف العربى، والصف العربى معوج ومتغافل ومنشغل بشئونه الداخلية ومصالحه، ومن غير الوارد توحيد صفوفه فى المستقبل القريب لمواجهة الأزمة.
نحن إذن أمام أزمة شديدة التعقيد، وصورة قاتمة على جميع الأصعدة، لن تُمحى إلا بقوة واعية وإرادة صلبة ودماء جديدة تتولى قيادة القضية الفلسطينية وتسعى لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطينى الذى طالت معاناته وآلامه، وهذا كله مرهون بتغيير موازين قوى كثيرة لا نعلم إن كنا سنتمكن من رؤيتها، أم ستشهدها أجيال قادمة، أو أن يُنزل الله معجزته من السماء ليرفع كل هذا القهر والظلم عن شعب طال ابتلاؤه.