يحكى أن دولة اسرائيل الديمقراطية ذات الشفافية العالية, والقيم الانسانية الراسخة, استطاعت بحرفية عالية أن تقسم جغرافيا فلسطين بين قطاع غزة المعزول والمحاصر منذ سنوات, والضفة الغربية التى تخضع لادارة السلطة الفلسطينية خدماتياً ولاسرائيل أمنياً! قد يبدو الأمر طبيعياً والحديث فيه مكرر ولا يدعو للاستغراب, غير أن ما يحدث نتيجة لهذا الفصل والعزل, من قبل اسرائيل التى تمارس أقصى درجات الحرية, هو فى الحقيقة يفوق القدرة على الاحتمال.
ففى طى هذا الانقسام والانفصال الجبرى, قصص وحكايات مغموسة بالمآسى والأوجاع, حين تسمعها تشعر أن هؤلاء البؤساء الذين كتب علهم التشرد, ليس من حقهم الاستقرار أو العيش فى بلدهم التى ولدوا وتربوا وترعروا فيها, محرومون من أبسط الحقوق الانسانية فى العيش والحرية والزواج وتكوين الأسرة. ستظل اسرائيل بسياستها العنصرية تُذكرهم أنهم معتقلين فى سجن كبير, أو محكوم عليهم بالاقامة الجبرية, ممنوعون من التحرك أو التنقل أو السفر.
انشطار الوطن الفلسطينى إلى قسمين حول حياة قاطنيه إلى جحيم مستعر, تتفاقم ضراوته كلما كثرت التفاصيل, وأهمها ذلك الحاجز الوهمى المفروض على حرية الحركة بين قطاع غزة والضفة الغربية, الأمر الذى أفقد الفلسطينيين القدرة على التواصل مع ذويهم سواء فى غزة أو الضفة, غير أن الأخطر هو أن هناك العديد من الفتيات المخطوبات والمتزوجات وأطفالهن عالقات بين الشطرين, فتيات مخطوبات لفلسطينيين من الضفة الغربية, غير مسموح لهن بمغادرة القطاع أو المتزوجات من رؤية أزواجهم بأى حال, ومن المخطوبات من طالت فترة ارتباطها لتصل إلى عشر سنوات فى بعض الأحيان, على أمل إيجاد حلول لا يريدها الاحتلال الاسرائيلى, يعانين أشد المعاناة, طرقن كل الأبواب, السوشيال ميديا, محطات التيلفزيون, منظمات حقوق الانسان, مسئولو الارتباط الفلسطينى الذين لا حول لهم ولا قرار, الادارة المدنية الاسرائيلية المسئولة عن مثل هذه الحالات, الاعتصامات السلمية أمام الادارة المدنية ومعبر ايرز, دون جدوى ولا شئ يتغير, تعقيدات كثيرة وعراقيل متعمدة تضعها اسرائيل أمامهم كى يعجزوا عن الانتقال, سواء من القطاع إلى الضفة أو العكس, يترقب معظم الفتيات اللذين يعانين من تلك الظروف, أن تفرج اسرائيل عن كشوف أسماء العالقين, أو تسمح بالموافقة على تغيير العنوان (من قطاع غزة إلى الضفة الغربية) وهو أمل أصبح بعيد المنال بالنسبة لهن, بعد أن طال أمد الانتظار سنوات وسنوات كى يتحقق حلم جمعهن بأزواجهن, أصبح لم شمل تلك العائلات أثرا بعد عين, اضطر بعضهن للسفر إلى الأردن, أو تركيا ليتم لم شملهم هناك شهر أو شهرين, ثم يعود الزوج إلى موطنه وعمله فى الضفة الغربية, وتنتظر الزوجة فرجاً غير مقدر لها, منهن من تعرضت للمرض بالفعل وحاولن استخراج تقارير طبية للعلاج فى الضفة الغربية ورؤية أزواجهن, لكن حتى هذا المطلب الإنسانى والمرضى مرفوض أيضاً والحجة جاهزة "لدواعى أمنية". يوجد أكثر من 70 فتاة مخطوبة لشباب من الضفة الغربية منذ 3, و4 سنوات وأكثر, لم يتركن وسيلة إلا وحاولن بها للخروج سواء عن طريق الأردن أو تركيا, ليلتقين بمن ارتبطن بهم لكن دون جدوى, "معبر إيرز" الوحيد الذى يمكن أن ينتقلن من خلاله إلى الضفة الغربية والخارج مغلق, وغير مسموح لهن بالمغادرة من خلاله, رغم الوعود الواهية التى وُعدن بها مرارا ولم تتحقق, فما كان من أطفال المتزوجات إلا مشاركة أمهاتهن فى الاعتصام أمام المعبر, يحملون لافتات معبرة كتب عليها "إحنا اشتقنا لبابا", "تغيير العنوان حقى وحق أطفالى", "أنقذوا الزوجات العالقات فى غزة".
كل يوم تثبت اسرائيل أنها تروج لشعارات زائفة وغير حقيقية, فلا هى دولة حريات ولا دولة ديمقراطية, ولا تعترف بحقوق الانسان المكفولة بالقانون الدولى, ولا تكترث للانتقادات التى تطلقها منظمات حقوق الانسان, ولا لقوانين الشرعية الدولية, بل تمعن فى الاستفزاز والتضيق وإحكام الخناق على المواطنين كنوع من العقاب الجماعى, ربما فاقت ممارسات دولة الاحتلال الاسرائيلى فى قسوتها وعنصريتها, ما حدث بعد بناء جدار برلين الذى شيدته سلطات ألمانيا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945, لإغلاق الوصول إلى ألمانيا الغربية بشكل دائم, واستمر على مدى السنوات الثمانى والعشرين التالية.
وأكاد أجزم أن اسرائيل تتفوق على الحاصل المأساوى بين الكوريتين الشمالية والجنوبية. تلك هى ديمقراطية اسرائيل التى تتباهى بها أمام العالم! واحترامها للحريات وحقوق الانسان! وخير دليل على ذلك تصريحات بتسلئيل سموتريش وزير المالية اليمينى المتطرف فى حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة, الذى طالب مؤخرا بمحو بلدة حوارة الفلسطينية من الوجود, ولم يكتف بذلك بل قال خلال زيارته للعاصمة الفرنسية باريس: "أنه لا يوجد شئ اسمه شعب فلسطينى, هذه هى الحقيقة التى يجب سماعها فى البيت الأبيض, إن الشعب الفلسطينى اختراع لم يتجاوز عمره 100 عام"! فماذا ننتظر من دولة اسرائيل المتحضرة ذات الجذور الضاربة فى التاريخ والجغرافيا أيضا؟! طبيعى أن تكون أفعالها على قدر غرورها وتاريخها المزور.