خلا الشهر الكريم من جموع المتسولين وكتائب الشحاذين المحترفين.. مواقعهم الاستراتيجية كانت خاوية، ومكامنهم الحيوية ظلت هادئة. محل الحلويات الشهير -حيث قبلة الدارسين الفاحصين الممحصين لنظرية «بص له فى اللقمة، يخاف يزور، يديك جنيه ويتقى شر عينيك»- شهد رمضانَ ساكناً آمناً فى ذلك العام. لم تخالج أصحاب السيارات الفارهة هواجس الشحاذ المزمن الناظر لهم بجبروت يخلو من مسكنة وفُجر منزوع النهنهة قائلاً «كل سنة وأنت طيب يا بيه. يدوم عليك نعمته وفضله يا رب» ولسان حاله يتمنى زوال نعمته وتبخر فضله. أولئك وجيرانهم ومعارفهم وأصدقاؤهم كانوا هناك، ومعهم بسطاء جاءوا بباصات انتهى عمرها الافتراضى قبل عشرات السنين. رجال عرفوا طعم السطوة للمرة الأولى فى حياتهم، ونساء ذقن طعم الكعك بالسمن البلدى للمرة الأخيرة فى حياتهن، وأطفال لعبوا وركضوا وركبوا المراجيح نهاراً، وحين أتى الليل خرجوا فى طوابير يحملون أكفانهم على أذرعهم مطالبين بعودة الشرعية وتطبيق الشريعة. هكذا سمعوا ممن حولهم الذين كانوا يأخذون عدتهم قبل قدوم طواقم التصوير وبث فعاليات الدعاء على الانقلابيين. كان هذا هو السيناريو فى «رابعة بارك» -على غرار «دريم بارك» و«كوكى بارك»- المعروفة إخوانياً بـ«رابعة رمز الصمود» المعنونة مصرياً بـ«رابعة الخراب»، والتى كانت حتى الأمس القريب مجرد «رابعة رابعة» التى ينادى عليها تباع الميكروباص بصوته الأجش. مشهد رابعة -الذى مر عام بالتمام والكمال على فضه- هو المشهد الذى سقط سهواً أو غاب قصداً أو انقشع طواعية أو تبدد رهبة من «محاكمة القرن». قضايا تصدير الغاز والقصور الرئاسية وقتل المتظاهرين والكسب غير المشروع وهدايا المؤسسات الصحفية، إلى آخر القائمة المكونة لـ«محاكمة القرن» فى كفة، ومشهد «رابعة» فى كفة، فهى مربط الفرس وسبب البلاء وجريمة القرن. لخص مشهد «رابعة» الذى انفض قبل عام بالتمام والكمال، جريمة نظام مبارك كاملة متكاملة. الأشعة المقطعية لاعتصام «رابعة» أظهرت شعباً موازياً للشعب الوطنى، وثقافة موازية للثقافة الأصلية، وهوية موازية للهوية المصرية، واقتصاداً موازياً للاقتصاد الرسمى، وولاء موازياً للولاء للمحروسة. اعتصام «رابعة» بكل ما جرى فيه وحوله وقبله وبعده هو جريمة العقود السابقة الحقيقية. ترك النظام السابق الباب موارباً فدخلت الدولة الموازية، جلست ورحرحت، وسيطرت وهيمنت، وغالت وبغت إذ أطعمت الأفواه الجائعة بمشروعاتها «الخيرية» وحقائبها الرمضانية عبر وزارة تموين غير رسمية، وداوت وعالجت فى مستوصفات بأجور رمزية من خلال وزارة صحة دون حقيبة، وعلّمت وربّت فى مدارس ومعاهد وأسر جامعية حيث أسرة «الحق» و«التوحيد» و«النور» بفضل وزارة تعليم إخوانية سلفية. حتى الترفيه والرحلات لم تألُ الدولة الموازية جهداً فى توفيرها بفضل وزارة سياحتها، فمن معسكرات الأشبال لصغار الإخوان إلى رحلات اليوم الواحد لحرائرهم. تبلورت ملامح ومعالم الدولة الموازية تحت سمع وبصر ورضا الدولة الأصلية. وحين كان معتصمو «رابعة» -المدفوعون بحب الجماعة وتقديس مرسى ومرشده أو حب اليومية وتقديس الإفطار والسحور المجانيين وكعك العيد بالسمن البلدى- يخرجون فى جولاتهم التظاهرية الليلية على هامش الاعتصام، فوجئ المصريون بالدولة الموازية تتجلى أمامهم؛ فبعيداً عن هتافات التهديد والوعيد لـ«الانقلابيين»، والتنديد والتحقير لـ«العلمانيين»، والإنذار والإشعار بأن «الإسلام قادم»، والتوكيد والتعضيد بأنها «إسلامية إسلامية»، فقد فوجئ المصريون بمظاهر الكذب والخداع التى يؤمن بها المعتصمون إيماناً لا ريب فيه. ورأوا كيف آمن المعتصمون بمليونية «الصمود» و«الإنذار الأخير» و«الزحف» و«التصدى» «و«بعد العصر مرسى هيكون فى القصر»، رغم أنها كانت مئويات خرقاء، وهو ما أكد لهم أن المعتصمين الذين كانوا بالأمس القريب جيراناً ومعارف وأقارب باتوا مواطنين فى دولة موازية. إنها جريمة القرن غير المدرجة فى محاكمة القرن.