علينا أن نحسم مشكلاتنا الأسرية أولاً قبل أن نفتح باب الشقة ونتحدث مع الجيران ثم ننزل الشارع لنواجه العالم. وعلينا أن نتجمع كأسرة لنرسى قواعد نتعامل على أساسها مع الأعمام والجيران والأصدقاء، وكذلك المعارف وحتى الأعداء.فليس من المعقول أن يخرج أحد أفراد الأسرة ليفرش الملاءة ويشرشح لجار لاك سيرة الأسرة بسوء، وذلك دون أن يخبر بقية أفراد الأسرة عن نواياه. فربما لدى أحدنا فكرة مغايرة للرد على الجار وتلقينه درساً دون أن يقول عنا بقية الجيران إننا أسرة «شرشوحة».وليس من المقبول أن تعهد الأسرة للابن المهندس بمهمة إنجاز المهام والمشاوير الأسرية التى تتطلب إلماماً بالقانون رغم أن ابننا المهندس له أخ محامٍ.وليس من المنطقى أن يأتينا ساعى البريد بخطاب من بلاد بره مكتوب بلغة لا يفهمها الجميع. فيُخضِع أحدنا محتوى الخطاب لـ«جوجل ترانزليت». وما إن يقرأ الترجمة الحرفية التى تحمل اتهامات جزافية بشعة حتى يفتح باب الشقة ويقف على «الباسطة» ويطلق العنان لأحباله الصوتية ليخبر الجيران أن ما ورد فى الخطاب كذب بيّن وإفك صارخ وضلال مبين.ما ورد فى تقرير «هيومان رايتس ووتش» الأخير من أن «مصر ارتكبت أخطاء فادحة على أرضها فى شمال سيناء»، وذلك لأنه تم هدم مبانٍ وترحيل سكان لمجرد أنها تواجه «عناصر مسلحة» ولمجرد أنها «تشن حملة ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» يستحق قدراً من الوعى. التقرير الصادر قبل أيام يطالب مصر بسرعة إعادة السكان إلى ديارهم والتوقف عن هذا «العنف الزائد غير المبرر».وبدلاً من أن يكون مثل هذا التقرير الذى يعتبر قيام دولة مستقلة صاحبة سيادة على أرضها بمواجهة داعش المتسلل إلى أراضيها عبر الحدود، والمتضامن مع أفراد وجماعات انقلبت عليها الغالبية من المصريين فى عام 2013 وقت كانت فى سدة الحكم، والذى يعيث فساداً فى شتى أرجاء المنطقة العربية والإسلامية حتى حوّل دولاً بأكملها إلى ركام، إذ بالبعض منا يتعامل مع التقرير وأصدائه فى العالم كأنه فى عركة بلدى بالسنج والمطاوى بغرض التهويش.وسواء يحدث ذلك بحسن أو سوء نية، عن علم أو عن جهل مدقع، فإن مثل هذه الأمور تحتاج أولاً إلى أن يفهم أهل البيت ما يجرى. وحبذا لو سبق عملية الشرح منظومات كاملة متكاملة من الوعى والمعرفة والتعلم عبر القراءة والاطلاع، وذلك حتى لا تكون المعرفة متوقفة على الطوارئ والكوارث والأزمات.تخيل معى مثلاً عزيزى القارئ أن المواطن المصرى اليوم وبينما يتابع بعض المنصات الإعلامية التى للأسف احترفت الشرشحة وسيلة معرفية وفرش الملاءة منصة توعوية ويسمع ما يقولونه عن التقرير، لكنه يعرف من خلال اطلاعه وثقافته أن تقريراً آخر صدر عن المنظمة نفسها فى عام 2019 وضع كلاً من الجيش المصرى و«المسلحين الإسلاميين» فى كفة واحدة، متهماً كليهما بـ«ارتكاب جرائم حرب». ألا تكون مثل تلك المعرفة وسيلة حماية للمصريين ووقاية من شرور السموم المعلوماتية؟!وإذا حلّقنا فى آفاق الأمنيات والأحلام، ألا نحتاج بالفعل إلى تطوير التعليم والتفكير وتحولهما من الحفظ والصم وترديد «آمين» على ما يقوله المعلم فى الفصل أو السباك الذى قرر أن يكون فضيلة الشيخ فى الزاوية، فيصبح التفكير النقدى سمة، والبحث والتقصى صفة؟مثل هذا التحول قد ينجم فى ظرف كهذا أن يبحث المواطن العادى بنفسه فيجد تلالاً معرفية تساعده فى فهم «بولوتيكا» حقوق الإنسان وتمويل المنظمات وتسييس التقارير واعتناق مذهب الحقوقية الانتقائية بحسب التوجهات والأهداف.خذ عندك مثلاً مؤسس «هيومان رايتس ووتش» روبرت برنشتاين الذى رحل عن عالمنا فى عام 2019. مؤسس هيومان رايتس ووتش نفسه كان يهودياً، وسبب ذكر ديانته ربما يساعد على فهم ما جاء فى مقال كتبه فى «نيويورك تايمز» فى أكتوبر عام 2009 وعنوانه «منظومة مراقبة الحقوق، ضاعت فى الشرق الأوسط»! لاحظ أن من كتب هذا هو مؤسس المنظومة. انتقد برنشتاين توجه «هيومان رايتس ووتش» فى منطقة الشرق الأوسط والذى رأى أنه بدلاً من أن تركز على الغاية منها وهو التحقق من أفعال وسياسات «الأنظمة الديكتاتورية العربية التى تزخر بها المنطقة، إذ بها تسرف فى انتقاد سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين وحماس وحزب الله رغم أنهم (الفلسطينيون وحماس وحزب الله) دائمو الاعتداء على إسرائيل».غاية القول أن كل ما يحيط بنا «بولوتيكا». السياسة بولوتيكا، والمنظمات بولوتيكا، والتقارير بولوتيكا، والعلاقات بين الدول وكذلك العداءات بولوتيكا، ووضع جيش يدافع عن أرض بلاده فى كفة واحدة مع المعتدى بولوتيكا، وتجاهل جرائم حرب اقترفتها وما زالت دول قابعة على الجانب الآخر من العالم بولوتيكا.نقطتان أخيرتان: الأولى هى أن البولوتيكا تستدعى ذكاءً ودهاءً ومعرفة واستنارة وليس شرشحة داخلية للاستهلاك المحلى. والثانية أن كل ما سبق لا يعنى أبداً انتقاصاً من أهمية حقوق الإنسان، لكنه محاولة للتفرقة بين الحقوق التى نستحقها والحقوق المعدة للاستهلاك الأممى.