د. أحمد صقر عاشور يكتب: "كورونا" وكشف النقاب عن طبيعة رأس المال الإنساني
د. أحمد صقر عاشور
يختلف مفهوم رأس المال الإنسانى، بحكم خبرتى العلمية والمهنية فى الموضوع عبر الخمسة عقود الماضية، عما هو سائد. فهذا المفهوم تتقاسمه ميادين علمية وتطبيقية عديدة، لكن لا يوجد إطار مشترك يحقق التكامل بينها. ولرأس المال الإنسانى أبعاد أو عناصر متعددة (تتناولها هذه الميادين التخصصية)، لو تم إهمال واحد أو أكثر منها، ولم يتحقق تضافرها خلال مرحلة تكوين هذه العوامل والطاقات، وكذلك خلال مرحلة تفعيلها فى الأداء والسلوك الذى يقوم به البشر فى أعمالهم وأنشطتهم المختلفة، فإن الهدر فى طاقات العنصر الإنسانى سيكون هائلاً. وتبرز الأهمية الحرجة لهذه الطاقات خلال الأزمة الحالية لكورونا، التى يتوقف اجتياز العالم لها فى المدى القصير، بحد أدنى من الخسائر الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، على منهج معالجة الأزمة ومدى التعامل مع الأبعاد والعناصر الحرجة لرأس المال الإنسانى. أما فى المدى الطويل، فقد كشفت الأزمة عن مدى أهمية البشر فى المنظومة الاقتصادية، وضرورة إعادة النظر بصورة جذرية فى أسس النظام الاقتصادى لتحقيق العدالة للعنصر الإنسانى. كما كشفت الأزمة أيضاً عن جوانب القصور فى تنمية والحفاظ على مختلف عناصر الطاقات التى تمثلها الثروة أو الأصول البشرية للمجتمع وتوفير سبل الاستفادة منها. ورغم تفاوت المجتمعات فى درجة التقدم والفاعلية فى تنمية الثروة أو الأصول البشرية والحفاظ عليها والاستفادة منها، فإن هناك جوانب قصور وهدر وعدم عدالة فى التعامل مع رأس المال الإنسانى تمثل قواسم مشتركة بين كل المجتمعات. ويبلغ الهدر والقصور وعدم العدالة أقصاه فى الدول النامية، ومنها مصر والدول العربية والأفريقية رغم ما تتمتع به من وفرة فى العنصر البشرى.
بداية، ينبغى إيضاح المفاهيم المتعلقة برأس المال والأصول الرأسمالية وتطبيقاتها بالنسبة لرأس المال الإنسانى. يمثل مفهوم رأس المال تلك الأصول التى يمكن استخدامها استخداماً فعالاً لتوليد عوائد أو منافع تمتد لفترة حياة الأصل. وهذه الأصول التى تدر وتنتج قيمة أو عوائد تمثل أصولاً رأسمالية. وتتحدد قيمة الأصل الرأسمالى بخصائصه وقدراته ونظم تنميته والحفاظ عليه واستخدامه التى تصب فى القيمة الكلية للعوائد أو المنافع التى يُدرّها خلال حياته. وبالنسبة لرأس المال الإنسانى، فله خصوصية إضافية، إنه هدف وغاية تتمثل فى الرفاهية المتحققة للبشر من استخدامه، أى إن الهدف هو إسعاد الإنسان وتلبية احتياجاته، وهو فى نفس الوقت وسيلة لتوفير المنافع المتحققة للسعادة وتلبية الاحتياجات.
التفاوت فى الرعاية الصحية يصل لأقصاه فى الدول النامية والفقيرة.. ودول كثيرة تحولت فيها الخدمات الصحية إلى تجارة شرهة للربح
وتنظر الدراسات الاقتصادية المعاصرة إلى رأس المال البشرى باعتباره يتكون من القدرات والمهارات والخبرات التى تتشكل من خلال التعليم والتدريب شاملاً الخبرات العملية والتى تصب جميعها فى إنتاجية الفرد وقيمة هذه الإنتاجية. كما أن هذه الدراسات تعتبر العنصر البشرى (عنصر العمل) مجرد أحد عناصر الإنتاج، ضمن عناصر أخرى، ويتحدد سعره أو أجره من خلال قوى العرض والطلب عليه، فالتحليل الاقتصادى يعامل عنصر العمل شأنه فى ذلك شأن أى سلعة يتم التعامل بها فى الأسواق. لكن هذا المفهوم يُعتبر قاصراً، حيث يُسقط خصوصية وطبيعة رأس المال الإنسانى باعتباره المصدر والصانع الحقيقى للقيمة فى أى نشاط اقتصادى، وهو الغاية والوسيلة أيضاً فى هذه الأنشطة. وهناك جوانب قصور إضافية فى المنظور الاقتصادى لرأس المال الإنسانى، حيث يركز على المعارف والمهارات ويُسقط عناصر أو أصولاً إنسانية أخرى تحدد قوة الدفع الموجهة لاستخدامها، وهى الطاقات والدوافع والقدرات العاطفية والوجدانية والاجتماعية، كما تحدد أيضاً سلامة الغايات والمسلك الذى توظَّف فيها المعارف والمهارات وهى القيم والمعايير الأخلاقية. وتمثل هذه القيم والمعايير والسلوكيات المرتبطة بها نوعية أخرى من القدرات والمهارات. إذاً يتكون رأس المال الإنسانى من قدرات ومهارات عقلية وبدنية، ودوافع وقدرات ومهارات عاطفية واجتماعية، وقدرات ومهارات أخلاقية وقيمية. ولا تعمل مجموعات هذه القدرات والمهارات بمعزل عن بعضها البعض، فقيمة وجودة وسلامة الأداء الإنسانى تحددها هذه العناصر الثلاثة فى تضافر وتفاعل مشترك بينها. ولا توجد فى الآونة الحالية معالجة متكاملة تسلط الضوء على ترابط وتضافر هذه الأبعاد والعناصر بحكم توزعها وتقاسمها بين ميادين عديدة فى مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
الهدر وفرص الاستثمار فى رأس المال الإنسانى
أظهرت جائحة كورونا مدى القصور وعدم العدالة فى منظومات الرعاية الصحية داخل كل دولة وعلى مستوى العالم (وإن تفاوتت بين دولة وأخرى). فمثلاً هناك 880 مليون إنسان فى العالم لا يتمتعون بالخدمات الصحية. هذا ناهيك عن التدهور فى البيئة الطبيعية وتأثير هذا على صحة الناس. ويبلغ التفاوت فى خدمات الرعاية الصحية أقصاه فى الدول النامية والفقيرة، حيث لا يستطيع الحصول على خدمات الرعاية الصحية إلا نسبة قليلة من المجتمع. وفى كثير من دول العالم (ومنها مصر) تحولت خدمات الرعاية الصحية فى المؤسسات الصحية الخاصة إلى تجارة شرهة للربح، يقابلها مؤسسات صحية حكومية متردية الكفاءة ومشبعة بالفساد ولا تغطى خدماتها مجتمع غير القادرين. وكشفت جائحة كورونا عن أهمية إعادة هيكلة منظومة الرعاية الصحية، لتكون أكثر كفاءة وعدالة وشمولاً. وأظهرت أيضاً أن الاستثمار فى الصحة له مردود اقتصادى واجتماعى.
الجائحة أوجبت أهمية إعادة هيكلة المنظومة الصحية لتكون أكثر كفاءة وعدالة وأن الاستثمار فى الصحة له مردود اقتصادى واجتماعى
وعلى نفس أهمية الاستثمار فى الصحة باعتباره استثماراً فى رأس المال الإنسانى، فالاستثمار فى التعليم والتدريب والخبرة يُعتبر على درجة عالية من الأهمية. وهذا الاستثمار لتنمية القدرات والمهارات العقلية والبدنية والحفاظ عليها، أسهبت فى دراسته البحوث والكتابات الاقتصادية المعنية بالموارد البشرية. لكن من المفيد إبراز أهمية وجدوى الاستثمار فى القدرات والمهارات العاطفية والأخلاقية من قبَل مؤسسات التعليم والمؤسسات الأخرى التى تشكل هذه القدرات والمهارات مثل المؤسسات التعليمية والدينية ومؤسسات المجتمع المدنى، فضلاً عن دور الأسرة، فلا جدوى من تعليم يعتمد على التلقين والحفظ أو حتى ينمى قدرات التحليل والنقد، إذا لم يتم فيه تنمية المهارات الوجدانية والاجتماعية للاتصال والتأثير والتعامل مع الآخرين وتفهُّم الذات وتفهُّم الآخرين وضبط النفس، فهذه القدرات والمهارات هى المحددة لكيف يشق الإنسان طريقه فى خضم التفاعلات والعلاقات الإنسانية والاجتماعية التى يزخر بها المجتمع وتزخر بها كل مؤسساته. كذلك لا جدوى من تعليم، أياً كانت جودة مناهجه وأساليبه، إذا لم ينمِّ ويؤسس للركائز الأخلاقية والقيمية الصحيحة ومعايير التعامل باستخدامها فى مسلك الأفراد فى مختلف مناحى حياتهم. وإذا خلا التعليم من هذا العنصر، يتم تفريغ المناهج ومضامينها من البوصلة الأخلاقية التى لا يمكن للمجتمع أن يتقدم وترتقى أوضاعه بدونها، فهذه البوصلة هى التى تشكل فى المدى البعيد تواؤم أفراد المجتمع مع بعضهم البعض ومع مؤسسات هذا المجتمع.
المعانى والمفاهيم السابقة لا بد أن تلقى بظلالها على الدور المنقوص الذى يقوم به التعليم فى كل مراحله فى مصر وكثير من دول العالم والذى يتسبب فى هدر وتبديد أهم ما تملكه وهو رأس المال الإنسانى، فمثلاً تركيز التعليم على قدرات الحفظ والتذكر وإهمال القدرات العقلية الأخرى مثل الفهم والتحليل والاستنباط والابتكار يمثل جوانب كبرى للهدر. وتركيز الامتحانات على الكتابة فقط، حتى فى اللغات، يُضعف ويطمس مهارات التخاطب والاتصال الشفهى وضمنها التعبير والإنصات والتأثير المباشر. وإهمال تنمية القدرات والمهارات الوجدانية والاجتماعية ينتج أفراداً يزخر المجتمع بخلافاتهم وصراعاتهم ونزاعاتهم، فضلاً عن ضعف التوازن العاطفى والنفسى الذاتى لهؤلاء الأفراد. ومن الضرورى الإشارة هنا إلى محدودية وعدم قدرة نظم التعليم عن بُعد التى توسعت على مستوى العالم والتى فرضتها ظروف وأوضاع أزمة كورونا فى تنمية المهارات العاطفية والاجتماعية والأخلاقية، فهذه النظم ضعيفة للغاية فى الدور التربوى المتراجع للمؤسسة التعليمية، كما هو الحال فى بلد كمصر. والتوسع فيه باعتباره بديلاً للتعليم المباشر سيقضى على هذا الدور التربوى والسلوكى إلى غير رجعة. هذا بينما تحتاج المجتمعات إلى إيلاء اهتمام أكبر للدور التربوى، باعتباره لا يقل أهمية عن دور تنمية المعارف، كذلك لا يمكن تحقيق التقدم الاقتصادى أو الاجتماعى المنشود فى مجتمع يُسقط القدرات العاطفية والاجتماعية والأخلاقية (الدور التربوى) من جهود تنميته للعنصر الإنسانى. ويُعتبر التركيز على الامتحانات بأساليبها التقليدية دون الحصيلة التعليمية المتضمنة مختلف القدرات السابق ذكرها، وغياب الدور التربوى والسلوكى والأخلاقى فى المؤسسات التعليمية (مثلما هو حادث فى مصر الآن ومنذ عقود)، أحد أهم أسباب الانهيار الأخلاقى والقيمى والسلوكى فى المجتمع، فانخراط الممارسات فى المؤسسات التعليمية فى الفساد والتربح والاستغلال الوظيفى، وانتشار ظواهر الغش بكافة صوره فى كل مراحل التعليم، ونمو قطاعات طفيلية تعيش على إفراغ البرامج التعليمية من مضامينها وإفساد كل الأطراف المباشرة للمؤسسات التعليمية (المقدمة للخدمة والمتلقية لها)، وشيوع الأمية الأخلاقية فى هذه المؤسسات، وبالتبعية فى المجتمع، تُعتبر شواهد كارثية لغياب البعد الأخلاقى فى عمل المؤسسات التعليمية وبالتبعية فى المجتمع المتلقى لمخرجات التعليم.
النظم الاقتصادية الرأسمالية تتضمن انحيازاً طاغياً لأصحاب المشروعات يترتب عليه هدر وظلم فادح.. و"كورونا" أبرزت هذه التناقضات
ويُبرز ما سبق أهمية إعداد المعلمين وإدارة أدائهم وممارساتهم فى مختلف مراحل التعليم ومجالاته للقيام بالأدوار المنسية فى تشكيل قدرات ومهارات الطلاب، ليس فقط العقلية منها، وإنما الوجدانية والاجتماعية والأخلاقية والفنية والسلوكية أيضاً، فهناك قصور بالغ فى أدوار وممارسات ونظم أداء هذه الفئة الهامة. وتشهد الأوضاع المختلة فى المجتمع (مع تفاوت درجة اختلالها بين المجتمعات)، تبعاً لاختلال أدوار وأداء هذه الفئة، وكذلك القدرات والمهارات التى تمتلكها ويتم تحفيزها لإظهارها والمساءلة من قبَل المؤسسات التعليمية عنها فيما يتعلق بتشكيلها وتنميتها لدى الطلاب، جوانب كثيرة للهدر والقصور فى هذه الجوانب. ويمكن تصور أوضاع المجتمع الذى لا تلقى فيه هذه الجوانب التركيز والاهتمام الواجب من قبَل المؤسسات التعليمية والعاملين فيها، فمثل هذه المجتمعات ستكون مشبعة بممارسات تتضمن نزاعات وصدامات وجوانب غير أخلاقية، بحكم نقص جهود التشكيل للقدرات والمهارات المتعلقة بها فى هذه المؤسسات.
وفى جانب آخر، فإن مضامين المناهج التعليمية الجامعية فى الكليات التى تعد وتؤهل الكوادر البشرية للعمل المؤسسى، مثل كليات الاقتصاد والمال والأعمال والقانون فى أغلب دول العالم، تُعتبر متحيزة لأسس وقواعد عمل النظام الرأسمالى، وحتى للنظم والأنشطة الريعية التى تتضمنها صورته المعاصرة. وهى أيضاً متحيزة لأصحاب المشروعات، وتنظر وتبرر وتفسر الثروات الهائلة التى يراكمها بعض هؤلاء، بينما يرزح بلايين البشر على مستوى العالم (وبعضهم فى أغنى وأعتى الدول الرأسمالية) فى بطالة وفقر وبؤس وحرمان. وتقديرى أن أزمة كورونا وتوابعها الاقتصادية ستتضافر مع الكتابات التى تزايدت فى العقود الأخيرة حول الاختلالات العميقة فى بنية وآليات النظام الرأسمالى المعاصر، والتى تنتج أزماته المزمنة، وتُعتبر مسئولة عن اتساع قاعدة الفقر والبؤس، يقابلها تصاعد وتركز الثروات فى العالم، لتقود إلى بزوغ نظام وسياسات اقتصادية جديدة أكثر كفاءة وعدالة وإنسانية، لا بد أن يتم التحضير والتنظير لها وتضمينها فى برامج مؤسسات التعليم الجامعى فى المجالات المشار إليها. والسؤال: أين نحن فى بلد كمصر من هذه الاتجاهات والتحولات فى المنظومة التعليمية المتعلقة بنظم الاقتصاد والمال والأعمال والقانون؟
مصر بحاجة إلى إعادة بناء نظام التعليم لتصحيح بوصلته ومهنه وممارساته ليقوم بدوره الحرج لتنمية المهارات الاجتماعية والقدرات الأخلاقية
وفضلاً عما سبق، لا يقتصر الهدر فى رأس المال الإنسانى، وربما أيضاً تشويهه، على المؤسسات التعليمية، وإنما يمكن أن يمتد ليشمل أيضاً المؤسسات الأخرى التى تقوم بتنمية القيم والمعايير الأخلاقية، وهى مؤسسات تشكيل وتنمية الوعى والقيم والمعايير الأخلاقية (المؤسسات الدينية ومؤسسات الإعلام والثقافة والفنون والآداب) بالتضافر مع الأسرة (التى تقوم بالدور الأكبر فى هذا المجال). وتلعب الثقافة الدينية السائدة دوراً هاماً فى تنمية الوعى والسلوك المتعلق بالجوانب الأخلاقية. وهى أيضاً مسئولة بدرجة كبيرة عن حالة التسامح والتراحم وقبول الاختلاف فى العقائد وضبط المفاهيم والمعايير الدينية والخلافية لتكون سنداً وداعماً لتقدم ونهضة وتواؤم المجتمع بكافة فئاته، أو لتقوم بعكس هذا إذا كانت مصدراً للتعصب والجمود والاستقطاب والفهم المغلوط لدور الدين. وتلعب المؤسسات الدينية، بما فيها معاهدها التعليمية، دوراً هاماً فى هذا المجال.
إهمال التعليم للقدرات العقلية يمثل هدراً للطاقات الإنسانية.. والمناهج الجامعية فى أغلب دول العالم متحيزة لأسس النظام الرأسمالى
وهناك حاجة لإعادة نظر شاملة فى المؤسسات والمهن المعنية بتكوين وتشكيل وصيانة والحفاظ على عناصر وأصول رأس المال الإنسانى. ويقع فى صدارة هذه الكيانات مؤسسات ومهن التعليم فى كل مراحله، ومؤسسات ومهن البحث والمعرفة العلمية والتطبيقية، ومؤسسات ومهن الرعاية الصحية، ومؤسسات ومهن الإعلام والصحافة، والمؤسسات والمهن الدينية، ومؤسسات ومهن الفنون والآداب. فهذه المؤسسات والمهن هى المختصة بمعارف ومهارات وقيم وسلوكيات وصحة وسلامة ووعى وأخلاق وأذواق البشر فى أى مجتمع، فإذا صحت هذه المؤسسات وتم ضبط مستهدفاتها وبوصلتها وأنظمتها وسياساتها وفاعلية الالتزام الأخلاقى لممارساتها على النحو الموجَّه أصلاً بمواصفات البشر المراد تشكيلها، وتم هذا فى مجتمع معنى بتنمية العنصر الإنسانى والاستفادة من طاقاته وتحقيق العدالة له، فإن مواصفات رأس المال الإنسانى ستسهم فى توفير حياة وسعادة واستقرار ووئام المجتمع ككل. ومن الطبيعى أن يُطرح السؤال حول إمكانية وجود هذه المواصفات، وكذلك الأوضاع المجتمعية المنشودة، إذا اختلت أوضاع مؤسسات ومهن القطاعات المسئولة عن تشكيل مواصفات البشر. الإجابة بالنفى لسبب بسيط، أن فاقد الشىء لا يعطيه. فمثلاً إذا لم تكن مؤسسات تشكيل الوعى والعاملون بها (مؤسسات التعليم والإعلام والصحافة والفنون والآداب والمؤسسات الدينية) موجَّهة بأهداف صحيحة ومزودة بالكوادر القادرة على القيام بمهمتها، وإذا لم تكن نظم إدارة هذه الكوادر العاملة، بما فيها أجورها وحوافزها، تستهدف جدارات معينة فيها لكى تصب فيما يُستهدَف تشكيله من وعى ومعارف وقيم لدى الجمهور المتلقى لجهود التشكيل هذه، فلا يُنتظر أن يكون لهذه المؤسسات أثر إيجابى على مواصفات البشر المتلقين لأنشطتها. والأغلب أنه فى غياب هذه العوامل، مع إمكانية وجود فساد، فإن دور هذه المؤسسات سيتحول إلى آليات لإفساد وتشويه مواصفات البشر المتلقين لممارساتها وأدائها. ومن الطبيعى أن يكون لهذا آثار وخيمة على المجتمع الذى تختل فيه أوضاع مؤسسات ومهن مثل هذا القطاع. والأخطر من كل هذا أن تدار المؤسسات والمهن المختصة بتشكيل مواصفات البشر بلا موجهات نظامية، وأن يتم تغلغل الفساد فيها واختطافها من قبَل ذوى المصالح الذاتية الضيقة، فتصبح هذه المؤسسات مفرخة للفساد والنفاق والسلوكيات والقيم غير الحميدة. ولنا أن نتصور أحوال المجتمع الذى تشكل وعيه مثل هذه المؤسسات. ومثال حى معبر عن تشوه الوعى هو سلوكيات الناس خلال كارثة كورونا كنتاج تراكمى لأدوار مشوهة وقاصرة لمؤسسات تشكيل الوعى يتضافر معها القصور الشديد فى مؤسسات ومهن الرعاية الصحية التى تحول الخاص منها إلى مهن تجارية صرفة بفعل أوضاع المجتمع وأوضاعها وبفعل ضعف البوصلة الأخلاقية لها.
النظام الاقتصادى ورأس المال الإنسانى
تلعب النظم المجتمعية، خاصة النظام الاقتصادى، دوراً مهماً فى تحديد جوانب الهدر وعدم العدالة والاستفادة من الأصول الإنسانية. ورغم ما حققه النظام الرأسمالى من تقدم خلال الثلاثة قرون الأخيرة، فإن جزءاً كبيراً من هذا التقدم كان نتيجة النهب الاستعمارى الذى انغمست فيه الدول الحاضنة له، هذا فضلاً عن أن آلياته المعاصرة تُعتبر مسئولة عن أوضاع الفقر والتفاوت فى الثروة القائمين فى العالم الآن. فمثلاً يسيطر 20% من سكان العالم على 83% من الثروة، وتبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلى لأفقر 48 دولة، وتبلغ ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم ما يتجاوز دخل 41% من سكان العالم مجتمعين، ويموت يومياً 50 ألف شخص فى العالم لأسباب متعلقة بالفقر. كما أظهرت جائحة كورونا أهمية الحفاظ على البيئة الطبيعية باعتبارها عاملاً أساسياً فى صحة وحياة الإنسان، وبيّنت دور آليات الإنتاج الرأسمالى فى التدهور البيئى الذى يهدد الحياة فى العالم بأكمله. وقد أظهرت الجائحة بوضوح تجاوز أو بالأحرى انتهاء صلاحية النظام الرأسمالى المعاصر فى تحقيق سعادة البشر واستقرارهم وعدالة معاملتهم والاستفادة من طاقاتهم.
إذا لم تكن مؤسسات تشكيل الوعى والعاملون بها موجهة بأهداف صحيحة ومزودة بالكوادر القادرة على القيام بمهمتها فلن يكون لها أثر إيجابى
وتمثل النظم المؤسسية المنبثقة من النظام الرأسمالى المعاصر آليات للهدر والاستغلال للأصول البشرية، رغم ما قد يبدو غير ذلك بشأنها. ويقع فى قلب هذه النظم السياسات والممارسات التى تقوم بها مختلف المؤسسات الموظفة للعنصر الإنسانى فى إطار هذا النظام، فهناك هدر وتبديد مصحوب بعدم عدالة فى التعامل مع طاقات ومهارات العاملين فى مختلف عناصر القدرات والطاقات السابق الإشارة إليها فى المنشآت الاقتصادية. ومثل هذه الأوضاع توجد، وبدرجة أكبر أحياناً، فى مؤسسات الدولة (مع وجود فروق فى الدرجة). ويرجع هذا القصور فى المشروعات الاقتصادية إلى التحيز لملاك المشروعات الذى يسمح بحصول ملاك المشروعات على النصيب الأوفر من العوائد والثروة التى ينتجها العنصر البشرى، وكذلك بتوسع الأنشطة الريعية غير المنتجة وحصولها على نصيب وافر ومتزايد من الثروة التى تنتج فى القطاعات المنتجة. ويساند هذه الأوضاع المغلوطة وغير العادلة النظام السياسى ومؤسسات الدولة والمجتمع والتشريعات القائمة. ويمتد هذا القصور كذلك إلى الثقافة المجتمعية وكذلك الثقافات السائدة لدى النخب المالكة للمنشآت الاقتصادية والقائمة بإدارتها، ولدى النظم والثقافة السائدة فى مؤسسات الدولة، فكلها لا تعكس فقط فهماً قاصراً لطبيعة ودور رأس المال الإنسانى على النحو السابق إيضاحه، وإنما تتضمن أيضاً تحيزاً لبعض فئات المجتمع (خاصة أصحاب المشروعات) وتقييداً للحقوق والحريات المستحقة لعموم الناس فى المجتمع. وفى مجتمع تسود فى مؤسساته والثقافة السائدة فيه أوضاع كهذه، ويكون فيه النظام السياسى مسانداً للنخب المسيطرة، ستكون أنظمة الإدارة والتشغيل للموارد البشرية تابعة (فى أفضل الحالات) لما يجرى فى مؤسسات القطاع الخاص. والمفارقة الكبرى هنا هى تخلف أنظمة الإدارة والتشغيل فى مؤسسات الدولة وتغلغل الفساد فيها، بينما ينبغى أن تكون فى الريادة والصدارة فى كفاءة وفاعلية الأداء وعدالة الممارسات، لأنها تصب فى مختلف قطاعات المجتمع وتنظم حركته وتوازناته وتؤثر تأثيراً بالغاً عليه. وطبيعى أن يتحدد هذا بطبيعة النظام السياسى وبآليات المساءلة التى تخضع لها مؤسسات الدولة، ودور رقابة المواطنين ومؤسسات المجتمع المدنى فيها.
ولا يعنى ما سبق أن النظم الاشتراكية قد حلت معضلة رأس المال الإنسانى، فتجارب هذه النظم تهدر هى الأخرى عناصر مهمة من هذه الأصول نتاجاً للمركزية والبيروقراطية وإهمال حقوق الإنسان وللفساد الذى يسرى فى جسد مؤسسات الدولة نتاجاً لضعف نظم المساءلة. هذا فضلاً عن إضعاف، وربما قتل، حافز المبادرة والابتكار لدى رواد الأعمال والمشروعات الاقتصادية عامة. ما يحتاجه العالم الآن نظام يعطى الاعتبار ويتعامل بعدالة مع العنصر الإنسانى وفى نفس الوقت يوفر حافز المبادرة لأصحاب المشروعات. لكن مثل هذا الحافز لا يكون على النحو المفرط والمبالغ فيه الذى يهضم حقوق العاملين الذين صنعوا القيمة وكانوا سبباً فى العوائد والأرباح التى تحققها المشروعات، فمن حق هؤلاء أن تُستحدث أنظمة يكون لهم بمقتضاها أجور وحوافز عادلة ونصيب غير هامشى فى أرباح المشروعات التى يعملون فيها، كما يكون لهم ضمانات ضد تقلبات وأزمات النظام الاقتصادى وضد البطالة والقرارات التعسفية التى يمكن أن يتخذها أصحاب أو إدارات هذه المشروعات. ولنا هنا أن نتساءل: هل فروق القدرة بين البشر يعادلها ويوازيها الفروق الهائلة فى الثروات وفى الفقر والسعادة والتعاسة بين عموم البشر وبين النخب القليلة لأصحاب المشروعات؟ حقيقة الأمر أن النظم الاقتصادية الرأسمالية تتضمن انحيازاً طاغياً لأصحاب المشروعات، يترتب عليه هدر وظلم فادح لبقية الناس وهم العاملون بأجر فى هذه المجتمعات. وقد أبرزت كورونا، ومن قبلها الأزمات الدورية المزمنة للنظم الرأسمالية، هذه التناقضات. وآن الأوان لهذه المجتمعات التى تعمل وفق هذه النظم التى تهدر ثروتها البشرية (وإن كان بصور ودرجات مختلفة) أن تتحول إلى نظام أكثر كفاءة وعدالة وإنسانية.
«كورونا» وسياسات تشغيل والتعامل مع رأس المال الإنسانى
أثيرت لدىّ الأفكار السابقة عند تأملى بمناسبة كارثة كورونا فى الأنظمة والسياسات والممارسات التى تتعامل مع رأس المال الإنسانى فى المجتمع وفى مؤسسات تنميته وتشغيله والاستفادة منه، فأوضاع هذه هذه الأنظمة والممارسات التى تتضمنها هى التى تؤدى إلى هدره وتبديد وتعطيل طاقاته وإلى ظواهر الفقر والبؤس والتهميش وعدم العدالة فى توزيع الثروة التى يصنعها ويكوّنها العنصر الإنسانى. وبات واضحاً من هذه الكارثة التى اجتاحت العالم مدى أهمية العنصر الإنسانى للاقتصاد والمجتمع، فتعطيله يؤدى إلى تعطيل الاقتصاد ومختلف جوانب النشاط والحياة المجتمعية. وكشفت الكارثة، مثلما كشفت أزمات النظام الرأسمالى فى الماضى القريب والبعيد، أنه ليس من العدالة أن يدفع ثمن ويتحمل أعباء أزمات النظام الرأسمالى بفقدان الوظيفة ومصادر الدخل اللازمة للحياة نفسها العنصر المنتج للثروة والذى ساهم فى تراكمها خلال الازدهار والصعود والرواج الاقتصادى. فليس من العدالة أن يتم التخلى عن صانعى القيمة والثروة التى يراكمها أصحاب المشروعات من عرق وجهد العاملين عندما تنحدر الأوضاع وتأخذ الأرباح اتجاهاً نزولياً. ولا تتضمن النظم الرأسمالية تشريعات وقواعد تعطى لصانعى القيمة والثروة حقوقاً وضمانات أمام التقلبات والأزمات التى يعانى منها النظام الرأسمالى المعاصر، فجزء كبير من أسباب هذه الأزمات التى أصبحت من طبيعة هذه النظم يكمن فى عاملين: أولهما سوء توزيع عوائد الإنتاج بين العمل (الأجور) ورأس المال (الأرباح)؛ وثانيهما توسع وتغوُّل أنشطة المضاربات والأنشطة الريعية التى تستحوذ على أنصبة متزايدة من القيمة والثروة دون أن يكون لها قيمة حقيقية مضافة. وللأسف فإن تدخُّل الدولة خلال الأزمات يتجه لإنقاذ ودعم أصحاب رأس المال وكذلك المؤسسات الريعية (الشركات المالية مثلاً)، بينما لا يلقى العاملون بأجر الذين فقدوا وظائفهم ومصدر عيشهم الاهتمام الواجب فى هذه الظروف. وهذا بافتراض أن بعث الحيوية فى الاقتصاد والخروج من الأزمة كفيل بتحريك جانب الطلب على العمل وبالتالى البدء فى استيعاب العاطلين. وللأسف فالفكر الاقتصادى والنظريات الاقتصادية المعاصرة تساند هذا المنحى، ولا تتعامل مع جوانب الخلل الهيكلية فى الأسس والفرضيات المغلوطة وغير العادلة التى يقوم عليها النظام الاقتصادى الرأسمالى. وتسرى هذه الأوضاع المغلوطة على أغلب النظم الاقتصادية فى العالم. لكن حجم الخلل وعدم العدالة وأوضاع الفقر والتهميش والبطالة وهدر رأس المال الإنسانى تبلغ أضعافاً مضاعفة فى الدول النامية، فهذه الدول تنهج نهج الاقتصاد الرأسمالى لكن بكل سوءاته ووحشيته مع أنشطة ريعية وفساد فى أغلب قطاعات الدولة والاقتصاد والمجتمع، بما يجعل وطأة أزمات النظام الاقتصادى أشد وأعنف بالنسبة للعنصر الإنسانى الذى يعانى من هدر وبطالة مزمنة وبؤس فى العيش والحياة. وقد جاءت منظمة الأمم المتحدة منذ سنوات قليلة لتنبه إلى خلل هذه الأوضاع على مستوى العالم (وإن كان بطريقة غير مباشرة لا تمس طبيعة النظم والسياسات الاقتصادية ذاتها)، وذلك من خلال أهداف التنمية المستدامة للعام 2030 التى تولى اهتماماً بأوضاع البشر ودخلهم وحياتهم ومعارفهم والبيئة المحيطة بهم. ومن الصعب تحقيق تقدم فى الوصول، ولو الجزئى، لهذه الأهداف، لأن الأسس التى تقوم عليها الأنظمة الاقتصادية والمجتمعية تحتاج إلى تغيير جذرى وكلى لإنجاز هذا. وجاءت كارثة كورونا لتقضى على بصيص الأمل فى نجاح هذه الأهداف، ما لم تتغير الأنظمة والسياسات التى تنتهجها الدول لإعادة الاعتبار للبشر ولتنمية طاقاتهم والاستفادة بهذه الطاقات وتحقيق العدالة والتضمين السياسى والاقتصادى والاجتماعى لهم. وطبيعى ألا تتطرق منظمة الأمم المتحدة لهذه العوامل الجذرية، لأنها محكومة بعضوية دول الأغلب الأعم منها نظمها السياسية والاقتصادية تتعارض وتتناقض مع هذه التحولات المنشودة، حتى ولو كانت ضرورية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التى تتشدق بها هذه المنظمة.
الدور الخطير للأسرة فى تشكيل الجوانب الوجدانية والاجتماعية والأخلاقية
يُعتبر دور الأسرة فى تشكيل الجوانب الوجدانية والاجتماعية والأخلاقية والسلوكيات المرتبطة بها للأبناء مهماً وحرجاً. وحتى الآن، وعلى مستوى العالم، هناك تأكيد على الأهمية الكبرى لهذا الدور. لكن هذا الدور والمهارات المتعلقة به لا تسانده أو تنميه أية جهود نظامية هادفة فى هذا الخصوص. بل إن المهارات المطلوبة لقيام الآباء والأمهات بدورهم التربوى متروكة للثقافة المجتمعية وما يتم تناقله عبر الأجيال. وفى أغلب الحالات هناك درجة عالية من العشوائية فى الأساليب التربوية التى تستخدمها الأسرة فى هذا الخصوص. وما من شك أن دور الأسرة فى تشكيل وجدان ومهارات وأخلاق الأبناء يحتاج إلى تكوين وتنمية المهارات التربوية لدى الآباء والأمهات، كجزء من تأهيلهم لأدوارهم كأزواج وكآباء وأمهات، ففى كثير من الحالات يلعب مناخ العلاقات الزوجية دوراً فى تحديد البيئة النفسية التى ينشأ فى ظلها الأبناء وتؤثر بالتالى على الجوانب والنزعات الوجدانية والأخلاقية والسلوكية لهم. الحل الحقيقى لهذه الأوضاع المترهلة التى تؤثر سلبياً على نفسية ووجدان وقيم وسلوكيات العنصر البشرى خلال فترة النشأة والتكوين حتى مرحلة النضج، هو بتوجيه جهود نظامية خلال مراحل التعليم وما بعدها لتنمية المهارات التربوية والسلوكية للأبوة والأمومة وكذلك للعلاقات بين الأزواج، فهذه الجوانب لا ينبغى أن تُترك للعشوائية والصدفة والثقافة المجتمعية (التى قد لا تحتوى بالضرورة على الجوانب المستهدفة فى تشكيل رأس المال الإنسانى للمجتمع) السائدة حالياً، والتى ينتج عنها آثار وخيمة وغير حميدة على مواصفات البشر وسلوكياتهم فى المجتمع. نحن على مشارف تغييرات وتحولات عالمية لإعادة الاعتبار للبشر ولرأس المال الإنسانى ينبغى ألا نتخلف عنها. وشكراً لكارثة كورونا التى تثير كل هذه الإشكاليات والتحديات للتحول لمجتمع إنسانى أفضل وأسعد وأرقى وأكثر عدالة وأمناً.
ملاحظة ختامية
الأفكار السابقة وما تشير إليه تستدعى بالضرورة أوضاع رأس المال الإنسانى فى بلد كمصر، فلا شك أن النظام الاقتصادى والتشريعات المساندة له والحاكمة لعمل المنشآت الاقتصادية فى حاجة إلى مراجعة شاملة. كذلك ينبغى أن تكون نظم الإدارة والعمل فى مؤسسات الدولة جميعها، وعلى رأسها القطاع الحكومى، رائدة ونموذجاً مرجعياً فى التركيز والاهتمام برأس المال الإنسانى وتنميته وتفعيله وعدالة معاملته، فهذه المؤسسات لا ينبغى أن تكون أبداً ساحة للترهل أو الإهمال أو الفساد أو عدم العدالة أو إهدار طاقات العنصر الإنسانى. ومن الطبيعى ألا يتحقق هذا إلا فى دولة ونظم سياسية واقتصادية ومجتمعية تكون منحازة بعدالة للبشر الذين يكونون لحمة وأصل وكيان هذا المجتمع. وليس هذا كلاماً خيالياً، فهناك من التجارب والخبرات العالمية ما يمثل خطوات وخبرات ناجحة فى هذا المسار (مثل سنغافورة وبعض الدول الإسكندنافية، إذا استثنينا نظمها الاقتصادية)، ينبغى تسارعها واكتمالها بالتغيير فى النظام الاقتصادى لتحقيق الاستفادة القصوى من رأس المال الإنسانى. وقد تجمعت الآن مسبباته وضروراته بفعل أزمة كورونا. كذلك الحال بالنسبة للمنظومة الصحية وضرورة تصحيح سياساتها وآلياتها، لأن أوضاعها الحالية مبددة ومهدرة للطاقات البشرية، ومسببة لتعاسة ومعاناة قطاع واسع من المجتمع. وسيحتاج الأمر إعادة بناء نظام التعليم لتصحيح بوصلته ومهنه وممارساته ليقوم بدوره الحرج ليس فقط فى تنمية المعارف والمهارات العقلية، وإنما فى تنمية المهارات العاطفية والاجتماعية والقدرات والمهارات الأخلاقية والقيمية. وينبغى أن يتضافر مع هذا إعادة بناء مؤسسات ومهن تشكيل وتنمية والحفاظ على الأصول الإنسانية التى أشير إليها سلفاً فى هذه الدراسة، بحكم أنها تمثل مستهدفات التقدم والنهضة وتحقيق سعادة المجتمع وفى نفس الوقت أدوات ووسائل تحقيق هذه الغايات. وينبغى أن يتضافر مع هذا إعادة نظر شاملة فى منظومة وسياسات الرعاية الصحية لتحقيق كفاءتها وفاعليتها، ولتأكيد وصول خدماتها وبجودة عالية لكل فئات المجتمع وليس فقط لمجتمع القادرين. وكل هذه العناصر والموارد الموجهة للعنصر الإنسانى تعليمياً ووجدانياً وأخلاقياً وثقافياً وصحياً ينبغى النظر إليها باعتبارها استثماراً ينبغى تنميته وزيادة عوائده بحسن المعاملة والرعاية والتوجيه والتحفيز، فهو ليس مجرد عنصر من عناصر التكلفة للمجتمع أو للمؤسسات، فهذا مفهوم قاصر وخاطئ يمثل شيوعه وبالاً على البشر والمجتمع بأكمله والمؤسسات العاملة فيه.