ماهر فرغلى يكتب: صناعة الذئاب المنفردة.. تنويم مغناطيسى بـ«ريح الجنة»
ماهر فرغلى
عند النظر بإمعان إلى قصص العشرات الذين قضوا منتحرين مع التنظيمات الإرهابية، ومنها (بيت المقدس) بسيناء، نجد أن غالبيتهم تحولوا فجأة، وأن سجلاتهم البيضاء، وكلهم يحتاجون إلى تحليل نفسى، كيف أنهم خرجوا من مخابئهم بعد أن توضأوا وصلوا ركعتين، ولبسوا حزاماً ناسفاً، ودعوا الله بالتوفيق والسداد، وقبل أن يفجروا أنفسهم بلحظات كانت على وجوههم ابتسامة.
هل تذكرون وليد بدر، الذى فجر نفسه فى موكب وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، قبل أن يفجر نفسه بدقائق، وهو يقول إنه ترك أولاده الصغار من أجل ريح الجنة؟ ألم تلاحظوا كيف أن محمد على السواركة كان يسلم على أصحابه وهو يضحك ملء فمه، قبل أن يفجر نفسه فى مديرية أمن جنوب سيناء؟ وعبدالرحمن الغرابلى، طالب كلية الإعلام بجامعة الأزهر، الذى انتخب شفيق فى المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وفجأة تحول إلى مسئول إعلامى لجماعة بيت المقدس، حتى قُتل على يد الجيش.
نشير فى البداية إلى أن هناك نوعين من هؤلاء، الأول هو الجوال الذى يحمل معتقداته وأفكاره ليفجر بها نفسه أى مكان فى العالم، والثانى هو الكامن الذى تمثل عملية الانتحار لديه انتهاء العملية الجهادية، بتحقيقه الهدف الذى يسعى معظم المتطرفين حول العالم إلى تحقيقه، وهو إما السلطة فى الدولة، أو الموت.
الاستفادة من السيولة
ترى الجماعات الجهادية المسلحة بكل صنوفها أنها مكلفة من قبل الله بصناعة المقاتل الإسلامى العالمى أمام الكفار فى العالم أجمع، فهى ترى أن الغالبية الساحقة من الدول هى دار كفر، وأنه لا يجوز الحديث لديها عن أهداف قطرية من نوع مصر، مثل القبول بالديمقراطية والمنافسة بالانتخابات كسبيل سلمى للوصول إلى السلطة والمشاركة فى الحكم، أو طرح شعار الحل الإسلامى بديلاً عن الحل العلمانى أو الحل الوطنى، بل ويشترط بعضها على أعضائه المبايعة على نبذ العمل السياسى وتحريمه، كما تعتقد أن أطروحتها للإسلام هى بديل عن الأطروحة القطرية أو القومية، لأنها تعتقد أن المقاتل الأمريكى والروسى العالمى الصائل فى بلاد المسلمين لا يمكن مواجهته إلا بمقاتل إسلامى عالمى، وهذا لا يمكن صناعته إلا فى ملاذ آمن، وفى الأغلب تكون هذه الملاذات فى أماكن التوتر، وفى أماكن الجبهات المفتوحة، أما فى الجبهات المغلقة مثل مصر على سبيل المثال، فإن الحل هو فى ما أطلقوا عليه (بناء الجسور المؤمنة)، أى معرفة هل يصلح الشخص للعمل الجهادى والتنظيمى أم لا، وعند التأكد من ذلك يبدأون فى إقامة علاقة شخصية معه، لإفهامه طبيعة هذا الدين، على حد قول المنظر الجهادى عبدالله العدم، فى أوراقه، ثم تكوين وحدة فكرية يستمر من خلالها داخل التنظيم.
تشير التنظيمات إلى أن الأمور التى تجعل هذا الفرد ينتظم فى العمل الجهادى، أو العمل التنظيمى، ويرتبط ارتباطاً قوياً ومصيريًّا بالعمل، منها: أن يرتبط بالجماعة بعلاقة اجتماعيّة، أسريّة؛ زواج إلى غير ذلك، ووجود علاقات فكريّة لتوحيد الرؤية وأسلوب العمل بأن يكون الرابط بينهم وبينه الفكر، والأسلوب الصحيح للعمل، حتى لا تختلف وجهات النظر، وأساليب العمل، ويصنّفون أن هناك نوعين من الذين يعملون فى التنظيم: رجل علنىّ، ظاهر للناس، معروف بشكله ومواصفاته وصوته، وصورته، وغير ذلك، ورجل سرى يعمل بالخفاء، وتستفيد التنظيمات الإرهابية من بعض أشكال التعاون الإنسانى، مثل الصداقة، والعشائرية، والقرابة، وهذا ظهر بوضوح فى منفذى حادث باريس، ومنهم إسماعيل عمر مصطفوى، فرنسى من أصول جزائرية، حيث تبين فى التحقيقات أن القرابة كانت سبباً فى العملية، وأن داعش استخدمت خلايا نائمة من الأجيال الثانية أو الثالثة المقيمة بفرنسا، التى انتمت إلى التنظيم.
خلق المناخ الفكرى
تحدث مفكرو هذه التنظيمات، ومنهم عبدالله محمد، عن المبادئ والشروط اللازمة لنجاح صناعة الانتحارى، ومنها خلق المناخ المناسب لطرح الأفكار، حيث قال (بما أننا ناقشنا مسألة المناخ المناسب لولادة مثل هذا المشروع فلم يعد علينا إلا البدء فى وضع الشروط اللازمة لذلك، وتحديد ملامح الاستراتيجية التى يمكن العمل من خلالها فى هذه المرحلة، وأولها هى مسألة الحشد الفكرى والعاطفى التى يجب أن تسبق الخطوات التنفيذية لأى عمل نقوم به).
فى كتاب العمدة، أنه لن يتم تشكيل الطليعة المقاتلة، إلا بتربيتها على الولاء والبراء، والمفاصلة مع المجتمع.
هنا يأتى دور التربية الفكرية، على التمترس، والموت، والانغماس، والانتحار، وتظهر الفتاوى مثل، فتوى أهل ماردين، التى يستندون إليها فى إباحة قتال الحكام المسلمين وأعوانهم من الجيوش، وجواز قتل المسلم إذا تترس به الكافر، كأساس شرعى لتبرير بعض العمليات العسكرية التى يترتب عليها قتل، مثل جواز قتل المدنيين، فهم يؤكدون بكل تنظيماتهم عليها.
التنويم المغناطيسى
قبل الانتحار لا بد أن يقوم التنظيم بتنويم العضو الانتحارى، وهو تنويم تقوم به كل الجماعات العاملة فى حقل الإسلام السياسى بلا استثناء، حيث يطرحون أمامه المشكلة، وهى «أن الإسلام الحقيقى غاب عن واقع المسلمين، وأن الدين لم يعد يوجه سلوك الناس أو حياتهم سوى فى النذر اليسير، وأن الإسلام الموجود فى المجتمع هو إسلام بعيد عن الحقيقى الذى يحتاج إلى من يجسده فى الواقع ليقترب من الصورة الذهنية التاريخية له، والمحصورة فقط فى مرحلة النبوة والخلافة الراشدة».. بعدها لا بد أن يوجدون الحل، وهو البحث عن دولة الخلافة الراشدة العادلة، التى لن يوجدها سوى الجماعة، أو حل المشكلة، بالوصول للهدف النهائى وهو الجنة، وهذا كله لن يتأتى إلا بإيجاد صلة مع الشخص المستهدف تجنيده، ثم إيقاظ الإيمان المخدر فى قلبه «بحسب كلام الجماعة»، وتوضيح معنى شمولية الإسلام، ثم إبراز أن الإسلام دين جماعة وليس ديناً فردياً، وبعدها إقناعه أنه لا بد من وجود جماعة للحكم بشرع الله، ولا بد من إيصال ذلك لعقل المستهدف، والمرحلة الأخيرة هى أن حماية التنظيم واجبة، والموت فى سبيل ذلك هو أسمى الأمنيات، لأن الخلافة أمر واجب، وأن السعى إليها أوجب، وأن التنظيم من الواجبات، والسمع والطاعة شرط لا يجوز التقصير فيه، وأن المعركة بين الإسلام وأعدائه هى فى الأصل معركة عقائدية حول التوحيد، أو حول لمن يكون الحكم والسلطان، لمنهج الله ولشرعه أو للمناهج الأرضية والمبادئ المادية، أو لمدعى الوساطة بين الخالق وخلقه، وما دامت الجاهلية عمّت فلا بد أن تكون هناك محاولات لإعادة الإسلام، وهذا ما يتصور العضو نفسه يفعله، لذا فهو يستلهم فقه السيرة الحركى، باعتباره يواجه نفس ما واجهه سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فى رحلة نشر الدين، ويتصور أن المعركة التى يخوضها هى «غزوة بدر»، وإن تعرض لفتنة ومحنة، فهى ابتلاء من رب العالمين، حتى لو كان ما يقوم به فى مجتمع مسلم، تدين الأغلبية فيه بالإسلام، لأن هذا التدين والإسلام ليس الذى يدعو له التنظيم.
يقول أيمن الظواهرى، فى كتابه «ريح الجنة.. وجوب إتلاف النفس فى سبيل الله»: فمن ألقى بنفسه فى الهلاك لصالح دينه أو لصالح المسلمين فقد فدى دينه وإخوانه بنفسه، وذلك غاية التضحية وأعلاها، وكم للمسلمين الأوائل من مواقف مشهودة كلها تضحيةٌ وفداء، وبذلك تستطيع أن تجيز ما يفعله الفدائى المسلم فى عصرنا هذا من أعمال يذهب هو ضحيتها، بعد أن يكون قد نكل بالعدو وقتل ودمر، وذلك مثل: إغراق سفينة بمن فيها من الأعداء وهو معهم، أو احتلال فندق لقتل من فيه من المقاتلين وهو يعلم أنه يقتل معهم، أو وضع متفجرات فى معسكر، أو فى مصنع حربى، أو فى إدارة عسكرية للقضاء على من فيها وهو يعلم أنه لا نجاة له، إلى آخر مثل هذه الأمور.
يتصور العضو أن إعادة الخلافة الإسلامية هى قوام هدفه وغايته الكبرى، وأنه يجب عليه التضحية بكل غال ونفيس من أجل ذلك، بل من أجل التنظيم الذى يجب عليه أن يفديه بروحه، لينشئ ما أسماه المودودى حكومة إسلامية.
هنا يأتى دور المكافأة التى يسعى إليها الانتحارى، وهى لا بد أن تكون شيئاً أكبر بكثير مما يستطيع أن يحققه فى حياته.. إنها الجنة، التى لا يكون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهى أعظم وأبقى من الحياة الدنيا، فيذهب إليها مختاراً طامعاً، وهو يبتسم.
صناعة الذئب الانتحارى
فى واحدة من رسائل تلك التنظيمات، تحدثوا عن وجود (علنيون)، و(سريون) من الذين يعملون فى الجماعات الإسلاموية، أى رجل علنىّ، ظاهر للناس، معروف بشكله ومواصفاته وصوته، وصورته، وغير ذلك، ورجل سرى يعمل بالخفاء، ولكل منهما دوره المنوط به، لكنه يجمعهما مهمة واحدة، وهى استمالة أولئك الذين يودون الإيمان بقضية مقدسة لتعوضهم عن الإيمان الذى فقدوه بأنفسهم، لأن أهم واجبات القائد طمس حقيقة الموت والقتل المرعبة، وتدريب الأفراد على العمل الجماعى بحيث يجعلهم قادرين على إنكار ذواتهم، والذوبان فى الآخرين، والارتباط بالمجموعة، والتضحية، والإنقاص من قيمة نفوسهم، والتخلى عن الكثير من خصوصياتهم، وعن آرائهم الشخصية، وفى كثير من الحالات عن ممتلكاتهم.
لعل ما سبق هو ما يتوافق مع ما قاله خبير تنظيم القاعدة، عبدالله العدم: الرجل السرى له مواصفات خاصّة، وأمنه الخاص، والرجل العلنى الذى يعمل فى العلن كل الناس تعرفه، وأيضاً له مواصفات خاصّة، وله أمنيات خاصّة، وكل منهما يخدم التنظيم.
فى سيناء على سبيل المثال ما يعرف بـ(الهيكل المتكيف) للتنظيمات، وهو التراتبية التنظيمية، التى تتكيف مع كل الظروف والأحوال، وتتنقل ما بين العمل السرى، والعلنى حسب الظروف والأحوال.
الفرضية الأساسية التى ظهرت فى بعض أوراق هذه التنظيمات، أن المحبطين يشكلون غالبية الأعضاء الجدد للجماعات المسلحة الجديدة بسيناء، وأن السلفية الجهادية تختلف أيديولوجياً مع تلك العناصر، وأن هذا الإحباط جعلهم ينقلون كل مشكلاتهم إلى النظام القائم، وجعلهم يتوقون للتخلص منه بأى ثمن، وأن قيادات هذه التنظيمات استغلت تلك الحالة، فصهرتهم فى كيانها الجديد، ومن أجل تنفيذ عملياتها بدقة، خلقت منهم ذئاباً منفردة، وهو الشكل الذى يعتمد عليه داعش مؤخراً، ونجح فيه إلى حد كبير، وقد أصدر التنظيم رسالة اسمها استراتيجية الذئب المنفرد، كتبها أبوأنس الأندلسى، أكد فيها على دعوته لعناصره الكامنة بتنفيذ عمليات متنوعة ومتعددة.
مما بدا فى الرسالة، فقد اتضح أن خصائص الذئب المنفرد هى عنصر المفاجأة فى تنفيذ العمليات الإرهابية، وعدم وجود سجل يثبت الانتماء مطلقاً، وعدم الارتباط الفعلى والمباشر مع التنظيم والجماعة الإرهابية، كما أن من أهم الخصائص الحرية فى تحديد الهدف والزمان والمكان لتنفيذ العمليات، وكذلك تنوع السلاح المستخدم فى تنفيذ العمليات حسب الإمكانات لدى المنفذ وبتمويل ذاتى.
للذئب المنفرد مجموعة من السمات، أهمها أنه يتحول بشكل مفاجئ إلى الأيديولوجية الإرهابية، ويتعاطى مع طريقة وتفكير التنظيمات التكفيرية بشكل متعجل.
يتشدد هذا الذئب المنفرد بشكل طارئ فى قضية الحلال والحرام، خصوصاً المسائل الخلافية منها، فضلاً عن أنه يستغرق أوقاتاً طويلة على شبكة الإنترنت، ووسائل التواصل بطريقة انزوائية لم تعهد له من قبل.
لا يعتد الذئب المنفرد بأقوال وفتاوى العلماء الكبار، بل وينتقص من مكانتهم العلمية والشخصية، ويهتم أكثر بفتاوى شرعيى التنظيم كالبنعلى والبرقاوى وغيرهما.
يبدو من تلك الصفات، ومن العمليات الانتحارية التى قاموا بها، أنهم غير متوازنين نفسياً، ولديهم حالة واضحة من الخلل فى شخصياتهم، مثل الميل للانعزالية والبعد عن الأهل والأصدقاء، وتغير العلاقة معهم بشكل مفاجئ، كما لديهم فراغ فكرى كبير يهيئهم لقبول أى فكر يطرح عليهم، وانتقالهم من مرحلة القول للفعل الانتحارى.
وبعد أن تدارسنا كيفية صناعة العنصر الانتحارى، سنكتشف أن النماذج الجديدة من أعضاء الجماعات الإرهابية الانتحاريين، نشأت بعيداً عن فكرة (الفسططة)، أى فسطاط الإيمان، وفسطاط الكفر، وبعيداً عن فكرة الفقر والاقتصاد والظروف الاجتماعية، فهى مختلفة تماماً فى تصوراتها، ودوافعها، وهناك مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها، كيف اقتنع الانتحاريون أن هذا جهاد، وأنهم سيموتون شهداء؟ وبأى أدلة شرعية جرى غسيل مخهم؟ وهل قرأوا كتاباً آخر غير كتاب الله الذى نعرفه؟.. الإجابة فى حلقة مقبلة.