برويز مشرف.. الجنرال العائد لوطن لا يريده
لماذا عاد الرئيس السابق برويز مشرف إلى باكستان؟
السؤال كان يتردد بإلحاح فى كل وسائل الإعلام العالمية، التى لم يمكنها فهم سر عناد الديكتاتور العجوز، الذى خرج مطرودا مهانا من بلد لم يعد يريده، تاركا إياه على شفا حفرة من نار الإرهاب والصراعات الداخلية والغلاء، ليذهب بـ«رضاه» إلى منفاه الاختيارى فى لندن أحيانا، وفى أحيان أخرى دبى، قبل أن يقرر بشكل مفاجئ أن يعود.
حالة «مشرف» تتشابه وتتقاطع بشكل فريد مع «مبارك» وأحمد شفيق، بينما لا يمكنك تجاهل تشابه الأزمات التى وجد الجيش الباكستانى نفسه فيها بسببه، مع الأزمات التى تواجهها المؤسسة العسكرية المصرية داخليا وخارجيا بسبب «مبارك»، ولا التشابه بين تدهور أوضاع الساحة السياسية الباكستانية الذى شجع «مشرف» على العودة، مع الانهيار الذى تشهده السياسة المصرية وتدفع أحمد شفيق بين الحين والآخر للظهور ملوحا باحتمال العودة من جديد.
4 سنوات مرت على «مشرف» فى منفاه. يشرب «الويسكى» ويلعب «كوتشينة»، ويشاهد العالم من وراء زجاج الفضائيات، حتى اختنق من الملل، على حد تعبير معارضيه، فقرر أن يعود ليشارك فى صنع الأحداث على أرض الواقع. قالوا عنه إن من عاش تحت سحر السلطة والأضواء لا يمكنه أن يتحرر منها. وإن هذا «السحر» سلبه عقله، فعاد كالمجذوب إلى باكستان، ليلقى نفسه تحت رحمة أعدائه، الذين صاروا سادة البلد فى الحكم والقضاء، متصورا أن الشعب سيحمله على الأعناق.. وكانت لـ«مشرف» مبرراته فى العودة؛ حيث عاد إلى البلد الذى حكمه 9 أعوام أملا فى أن يحكمه من جديد، وقف مخاطبا الشعب عبر الشاشات قائلا: «أنا الوحيد القادر على إنقاذ باكستان، لقد عدت من أجلكم، أريد أن أعيد من جديد باكستان التى تركتها».[FirstQuote]
لكنه لم يكن يفهم أن باكستان نفسها تجاوزت حكمه وتركته.
رأت صحيفة «الجارديان» البريطانية أن «(مشرف) كان يعانى عقدة خروجه المهين، بعدما ظل 9 أعوام كاملة يقصى السياسيين والقضاة من الساحة، ووصل به الأمر إلى الدخول فى مواجهات مع رئيس المحكمة العليا، والقضاة كلهم من ورائه. دخل أيضا فى مواجهات شرسة مع عدد من القادة السياسيين الذين تولوا الحكم من بعد أن نجحوا فى إخراجه من السلطة، قبل أن يفشلوا بدورهم فيها. كان (مشرف) مُصراً على العودة إلى باكستان بعد أن ظن أن فشل معارضيه فى الحكم سيدفع الشعب إلى أن يستقبله بأذرع مفتوحة، دون أن يفهم أن باكستان لا يمكن أن تعيد نفسها إلى حكمه، مهما حدث».
وتواصل «الجارديان»: «إنه على الرغم من كل الكوارث التى شهدتها باكستان بسبب الحكم الفاشل لرئيس الوزراء الذى جاء بعد (مشرف) آصف على زردارى، الذى استمر أكثر من 5 سنوات، ورغم عدم حماس الشعب الباكستانى لمنح صوته لنواز شريف، رئيس الحزب المعادى لـ(مشرف) فى الانتخابات المقبلة، ورغم ضعف أداء كل التيارات بعد وصولها للحكم، فإن الأمر الحقيقى والواضح أن احتمال عودة (مشرف) إلى السلطة أو حتى فوز حزبه بوجود حقيقى فى البرلمان المقبل شبه منعدم؛ فقد أصبح (مشرف) مجرد ظاهرة إعلامية تثير شهية وسائل الإعلام، لكنه لا يتمتع بقاعدة شعبية حقيقية على الأرض».
عاد «مشرف» إلى باكستان؛ لأنه تصور أن الاضطرابات التى مزقت البلد يمكن أن تعيده إلى رأس السلطة من جديد. تقول «الجارديان»: «إن ما ينتظر باكستان فى الفترة المقبلة مستقبل مظلم، والخوف يسيطر على كل من يحيا فى البلاد. لا يوجد تيار سياسى واحد قادر على أن يحشد كل الناس خلفه، والانتخابات المقبلة فى 11 مايو لن تشهد فوز حزب واحد بالأغلبية. ما زالت باكستان فى انتظار (المخلِّص) الذى يمكن أن ينقذها مما تردت فيه، وخطر الإرهاب ما زال قائما فوق رؤوس الناس بسبب تهديدات حركة (طالبان) المتواصلة التى لم ينجح الجيش فى السيطرة عليها بعد. وفوق ذلك كله تأتى معضلة الاقتصاد التى دفعت البلاد للارتماء من جديد تحت رحمة صندوق النقد الدولى، بسبب خوفها من أزمة الطاقة التى تهددها فى الفترة المقبلة، وقد تجعلها تشهد انقطاعات متواصلة فى الكهرباء ونقصا فى مخزون الغاز الطبيعى والبنزين والسولار».[FirstImage]
ربما هذه الصورة السوداء هى التى دفعت «مشرف» لأن يقول فور إعلان عودته لباكستان: «عدت لأن بلادى بحاجة إلىَّ»، لكن الواقع أن أحدا لم يهلل لعودته، فمنذ تنحيه عن الرئاسة عام 2008، تجاوزته باكستان كلها. الحزب الذى أسسه «مشرف» نفسه قرر التحالف مع عدوه اللدود آصف على زردارى، ولم يعد الحزب يذكر حتى اسم «مشرف» فى بياناته وإصداراته. بينما دارت الأيام ليصبح نواز شريف، رئيس الوزراء الذى أطاح به «مشرف» من قبل، المرشح الأبرز لرئاسة الوزراء من جديد. أما النخبة السياسية والطبقة التى كانت يوما ما ملتفة حول الرئيس الباكستانى السابق، فوجدت لنفسها نجوما جددا تلتف حولهم، وتمنحهم ولاءها ونفوذها، ويأتى على رأس هؤلاء عمران خان»، لاعب الكريكيت الجذاب، الذى قرر مؤخرا دخول عالم السياسة، لتزيد جاذبيته شعبية الناس الذين يلتفون حوله يوما بعد يوم.
لم يهلل لعودة الرئيس السابق سوى قلة من المنتفعين من عودته، وعلى رأسهم المحامون الذين فرحوا بكم القضايا التى سيترافعون بها دفاعا عن الرئيس السابق، التى بلغت حدا خرافيا بمجرد عودة الجنرال والرئيس السابق للبلاد، وإن لم يتوقع أحد أن يكون أخطرها، هى القضايا التى اختصمه فيها القضاة أنفسهم، فقد شهدت باكستان، عندما كان «مشرف» رئيسا، مواجهات رهيبة بين قضاء لا يقبل أن يركع وديكتاتور لا يريد سوى انتزاع السلطات كلها لنفسه. وبلغت تلك المواجهات ذروتها فى مواجهة «مشرف» لرئيس المحكمة العليا فى باكستان، افتخار محمد تشودرى. طلب «مشرف» من «تشودرى» فى مارس 2007 الاستقالة من منصبه. كان القاضى النزيه قد تحول إلى شخصية غير مرغوب فيها بين كبار رجال الحكومة، بسبب إصراره على فرض القانون على الكبير قبل الصغير، وإصراره على إيقاف الصفقات الحكومية الخاصة بخصخصة ممتلكات الدولة التى أثارت شكوكه.[SecondQuote]
تفجر الصراع الأمرّ بين الرئاسة والقضاء بعد أن رفض «شودرى» التنحى عن منصبه وانضم الشعب إلى القضاء لتنطلق مسيرات حاشدة فى الشوارع تندد بديكتاتورية «مشرف»، وبعد أربعة أشهر من المسيرات المتواصلة والضغوط الشعبية اضطر «مشرف» إلى إعادة القاضى إلى منصبه، إلا أن «مشرف» عاد من جديد ليتجاهل القانون، معلنا حالة الطوارئ فى باكستان، مبعدا «شودرى» عن منصبه للمرة الثانية، ومحيلا 60 قاضيا مواليا لرئيس المحكمة العليا إلى الإقامة الجبرية فى منازلهم بعد عزلهم عن مناصبهم، وقام بتعيين قضاة جدد موالين للحكومة فى المحكمة العليا، وظل القضاة المعزولون قيد الإقامة الجبرية لمدة أربعة أشهر.
لم ينس القضاة هذه الإهانة لـ«مشرف»، حتى بعد مرور أربع سنوات على خروجه من السلطة، فتلقى «مشرف» أولى صفعاته وصدماته بعد عودته لباكستان، عندما أصدرت محكمة إسلام آباد العليا، منذ أيام، حكمها باحتجازه على ذمة اتهامات تتصل بمواجهته مع الهيئة القضائية عندما كان فى السلطة عام 2007. إضافة إلى اتهامات بعدم توفير ما يكفى من الإجراءات الأمنية لرئيسة الوزراء السابقة بى نظير بوتو قبل اغتيالها، واتهامات تتعلق بمقتل زعيم انفصالى فى إقليم بلوخستان فى جنوب غرب البلاد.
وتناقلت وسائل الإعلام صور الرئيس الباكستانى السابق وهو يخرج مهرولا من المحكمة العليا فى حماية حرسه الخاص، بينما اتجهت الشرطة لحصار منزله واحتجازه واعتقاله على ذمة التحقيقات لمدة أسبوعين. وردا على تلك الأحكام ضده، منع مسئولو الانتخابات «مشرف» من خوض انتخابات الجمعية الوطنية، ما أحبط محاولاته لاستعادة مكان فى الحياة السياسية من جديد.
وقالت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، تعليقا على انتقام القضاة من «مشرف»: «أراد القضاة أن يفيقوا (مشرف) من أوهامه، أن يجعلوه يفهم كيف تغيرت القوى على الأرض من بعد خروجه، وأن عودته للبلاد لا تعنى عودة الأمور إلى ما كانت عليه من جديد. لم ينسَ القضاة تنكيل (مشرف) بهم وهو فى السلطة، فردوا بإذلاله بعد خروجه منها. حرموه من حلمه بالعودة إلى السياسة، لكنهم لن يقدروا على الأغلب من حرمانه من حريته؛ لأنهم فى هذه الحالة لن يواجهوا (مشرف)، لكنهم سيواجهون المؤسسة العسكرية التى كان ينتمى إليها من قبل».
كلمات الصحيفة البريطانية تكشف جانبا آخر من الحقيقة؛ أن عودة «السيد مشرف»، الذى كان يوما ما «الجنرال مشرف» قد وضعت القضاء والجيش فى باكستان على خط مواجهة حاولا تجنبها كثيرا فى ظل الأوضاع الحرجة التى تمر بها البلاد، وإن كان من الواضح أن تأجيلها بعد الآن لم يعد ممكنا.
وتقول «الإندبندنت»: «إن قيادة الجيش الباكستانى الحالية لا تريد أن تتدخل فى السياسة، لكن الضباط فى الوقت نفسه لا يريدون أن يروا ضباط الجيش المتقاعدين يحاكَمون أمام المحاكم المدنية، وانتقد قائد الجيش الباكستانى الجنرال أشفق قايانى رئيس المحكمة العليا افتخار تشودرى؛ لأنه أمر بفتح باب التحقيق فى تورط الجيش فى تزوير انتخابات عام 1990. وعلى ما يبدو، فإن قرارات المحكمة الأخيرة فى قضية (مشرف) تهدد رغبة الجيش فى أن تمر المرحلة الانتقالية دون أن يحاول أحد المساس بامتيازاته. فالواقع أن الجيش فى باكستان كان دوما أكبر من مجرد مؤسسة، وكان له دوره الذى لا يمكن إنكاره فى السياسة، خاصة أن الجيش فى باكستان كيان شبه مستقل، يدير عدة مصانع فى مختلف المجالات والعقارات، ويحافظ دوما، حسب تعبير قادته، على (الحدود الفكرية والجغرافية) لباكستان».
وتواصل «الإندبندنت»: «صار (مشرف) بالنسبة للجيش يمثل حرجا لا بد من التخلص منه. كانوا يتمنون أن ينساه الناس وألا يربطوه بهم، لكن محاكمته وأحكام القضاء التى صدرت ضده على الرغم من انتمائه للجيش كانت توضح للجيش أنه لا يمكنه الحصول على كل شىء فى وقت واحد؛ لذلك فالحل الوسط الوحيد أمام قائد الجيش الباكستانى هو أن يجد مخرجا آمنا لـ(مشرف)، أو أنه يتوصل مع القضاء لحكم مخفف عليه».
والواقع أن الجيش كانت له حسابات عديدة مع الناس بعد خروج «مشرف» من السلطة، ترويها «الإندبندنت» قائلة: «إن الجيش عمل بجهد، بعد خروج (مشرف) من السلطة، على تحسين صورته لدى الناس. وحرص قائد الجيش الجنرال أشفق قايانى على إبعاد الجيش عن التورط فى السياسة. وحرص على تحسين علاقات قيادات الجيش مع الضباط الأصغر رتبة ليبدد السخط العام الذى كان ينتشر بين صفوف الجيش بسبب فساد القيادات فى عهد (مشرف). وحرص الجيش على تسريب أخبار تظهر أن قائد الجيش، قايانى، كان معارضا لـ(مشرف) على طول الخط، على الرغم من أنه هو من قام بتعيينه كرئيس للمخابرات، ثم كوزير للدفاع فيما بعد.. ثم إن الجيش الباكستانى مشغول الآن بما هو أهم، مشغول بتلك الحرب الدائرة بينه وبين المنظمات الإرهابية وعلى رأسها حركة طالبان التى سيزداد خطرها حتما بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان، وفقد الجيش بالفعل شهيته للحكم، وفقد حتى قدرته عليه، وكل ما يريده هو أن تمر المرحلة الانتقالية عليه بسلام».[ThirdQuote]
المحللة السياسية الباكستانية عائشة صديقة لها رأى مشابه، قالت: إن الجيش ظل، على الرغم من أخطائه، هو المؤسسة الأكثر احتراما فى باكستان، وهو احترام له ما يبرره؛ ففى شهر واحد سقط 12 من جنود الجيش قتلى فى مواجهة مع حركة طالبان بالقرب من أفغانستان، إلا أن سقوط ضحايا من الجيش لم يحظ باهتمام إعلامى واسع فى باكستان. فشعر عدد من جنود الجيش أن دماءهم تذهب سدى. وربما كان هذا السخط العام المنتشر بين جنود الجيش سيجد فى محاكمة «مشرف»، القائد السابق فيه، سببا للإعلان عنه، وهو ما سيضع وزير الدفاع فى موقف حرج، فإما أن يختار الشعب، واما أن يختار الوقوف فى صف جنوده. ومن جديد لا حل له هنا إلا بالضغط لحصول «مشرف» على حكم مخفف.
وتواصل الكاتبة الباكستانية: «إلا أن المعركة الحقيقية فى قضية محاكمة (مشرف) لن تُحسم فى النهاية لصالح الجيش. فأيا ما كان الحكم النهائى الذى سيصدر ضده، فسيكون الجيش قد أدرك بالفعل أن نفوذه فى السياسة الباكستانية لم يعد كما كان، وأنه خسره لصالح قضاء تتزايد سلطته، وإعلام تتزايد قوته، ونخبة سياسية يزداد تماسكها ووضوحها. وهو ما يضع نهاية لأسطورة الجيش الذى يظل دائما فوق المساءلة. وأنه على العكس، لو أراد الجيش أن يقيم روابط حقيقية مع كل تلك القوى، فعليه أن يبدأ بتطهير نفسه، على الأقل، وألا يساند رموز الفساد الذين يحاكمهم الناس فيه، وأولهم (مشرف)».
تلك ليست باكستان التى تركها «مشرف»، لكنه وحده هو من ظل يراهن على أن الشعب سيحبه، وأن القضاء سوف يخاف منه، وأن الجيش سوف يضعه على رأسه من جديد. انعزل «مشرف» فى فيلته الفاخرة فى إحدى ضواحى العاصمة الباكستانية الراقية، قبل أن تنتزعه الشرطة إلى ظلام محبسه الاحتياطى. لكن كل هذا، على ما يبدو، لن ينجح فى انتزاعه من وهمه أنه المخلِّص الذى تحتاج باكستان إليه. ببساطة لأن الديكتاتور لا يرى الواقع أبدا كما هو، وأنه لو كان من الأساس يسمع أو يرى، لما ترك باكستان مُهاناً، ولما عاد إليها رغم أنف شعبها، ولما حاول وضع نفسه فى قلب السياسة بعد أن انقلبت عليه صارت أقدام أعدائه فوق رأسه هو.