«عصام سلمان»: «إحنا عرفنا مصريتنا على إيده.. واللى جم بعده قتلوها جوانا.. ولحم كتافنا من خير مصانعه»
عصام سلمان
«ارتدى أفضل ما لديه من ثياب، مشّط شعره جانباً، وارتدى حذاءه الجديد، وخرج بوجنتين بارزتين من فرط السعادة، ليُشارك مع زملائه بمدرسة حلوان الابتدائية فى استقبال رئيس الجمهورية فى زيارته لافتتاح أحد المصانع المجاورة لمنزله»، إنه الطفل الصغير وقتها «عصام سلمان»، الذى أصبح عندما كبر أحد عمال مصانع أسّسها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر منذ الستينات، وكانت محل عمله لسنوات منذ تخرّجه فى الثمانينات، وحتى أزاحته الخصخصة خارجها فى التسعينات.
أحد عمال مصانع حلوان: مات يوم تطبيق «الخصخصة» فى التسعينات.. لكن لسه عايش فى قلوبنا
يتذكّر عن طفولته شيئاً، حيث يقول: «كنت أعرف الرئيس جمال عبدالناصر جيداً وأعلم عنه الكثير، استمعت ليالى طويلة إلى والدى وهو يقص علىّ أحاديث الثورة، أتذكره جيداً حينما ارتدى (الأفرول) الأزرق، وخرج فى يوم عمله الأول بمصنع أسسه الرئيس بجوار منزله بمدينة حلوان، ولحق به شقيقه وآخرون من جيرانه».
ظل لقاء «عبدالناصر»، حلماً يداعب خياله منذ زمن، حتى لاحت له الفرصة أخيراً، وأصبح على موعد بمشاهدته عن قُرب، وبالفعل رأى الطفل الرئيس رأى العين، لوح له بيده الصغيرة، ورد عليه، لم يكتفِ بذلك، بل ترجل «ناصر» عن سيارته المفتوحة، ومد يده ليُصافح الأطفال، ووقف يداعب الطفل ويتلاعب برفق فى شعر الصغير، وسط أسارير منفرجة، تلك اللحظات ظلت أثيرة لذاكرته.
عصام سلمان، خمسينى العمر، عمل فى مصانع أسمنت حلوان منذ عام 1981، خرج «معاش مبكر»، تقاضى ثمناً لعهده مع أفكار «عبدالناصر» لسنوات، تزينت قائمة المستغنى عنهم باسمه مع بدء عمليات خصخصة القطاع العام فى التسعينات، خصوصاً بعدما قاد حملة شرسة ضد مشروع الخصخصة داخل مصنع، والتى كانت توجه الدولة ونظام «مبارك» حينها.
يعيش «سلمان»، وما زالت الفكرة الناصرية بين جوانحه، يمقت أحزاباً تشدّقت باسمه ولم تفعل شيئاً لدولة خالدة فى قلوب وأذهان الفقراء: «الخصخصة هى يوم الوفاة الحقيقى لعبدالناصر»، حيث يؤمن أن يوم خروج مشروع خصخصة قطاع الأعمال كان الوفاة الحقيقية له، وليس فى 28 سبتمبر عام 1970، ذلك اليوم الذى خرج فيها حاملاً نعشاً فارغاً طاف به شوارع مدينة حلوان لثلاثة أيام، لم يذق فيه طعم النوم، حداداً على الراحل: «ساعتها ماكانش لسه مات.. كان لسه عايش فى قلوبنا.. فى لحم كتافنا اللى من خير مصانعه.. كان عايش فى أكل عيشنا»، ويستطرد: «إحنا عرفنا مصريتنا على إيده.. واللى جم بعده قتلوا المصرية جوانا».
تخرج «سلمان» عام 1981، ولم يجد مكاناً يأوى إليه للعمل إلا مصانع «عبدالناصر»، حيث انضم إلى شقيقه ووالده بمصانع الأسمنت بعدما خرج والده عن المعاش: «عبدالناصر عمل فى حلوان بس 120 مصنع.. وعلشان كده سميت بالقلعة الصناعية»، فشعر الرجل أن مستقبل أسرته بالكامل أصبح فى مأمن، لكن بعد قانون 203 لسنة 1992، الخاص بقطاع الأعمال: «عم الخراب على مصر»، فيجد فى هذا القانون أنه دمّر مصانع «عبدالناصر»، خصوصاً بعد بداية الخصصة فى 1997.
مات «عبدالناصر» وترك «سلمان» مصنعه الأثير، وما زال الرجل يلهث وراء حكم قضائى يحصل من خلاله على حقه المفقود من ذلك المصنع، بعدما خرج على المعاش دون أن يتقاضى حقوقه المادية القانونية، خرج الرجل مع الثورة، شاهد صور «عبدالناصر» تُرفع فى الميدان، ظن أن الزمن قد يعود للوراء ويأتى من يحقق العدالة الاجتماعية، خرج فى مظاهرات فئوية، لكن دون جدوى، وظلت الشركة الإيطالية المالكة لمصانع «عبدالناصر» تتهرّب من دفع حقوق 3000 عامل لم يجدوا مورد رزق آخر بعدما شردتهم الخصخصة.
لم تكن المصانع وحدها التى تنضح بما آل إليه ميراث «ناصر» ولكن يجدها «سلمان» جلية أمامه فى مدينة حلوان، حيث يعيش، يجدها فى مقارنة بين ماضيها وحاضرها، يتذكر شكل المصانع القائمة وصوت ماكينات العمل التى لا تهدأ، وتحولت اليوم إلى خرابات تسكنها الحيوانات والفئران، فى الأشجار والخضار التى كانت تضج بها الشوارع، واليوم بُدلت بالقمامة، فى عيون المياه الكبريتية التى حوّلت حلوان إلى مشتى ومشفى للأمراض الجلدية، التى أغلقت، وتحولت بعدما اختلطت مياه العيون بمياه الصرف الصحى بفعل الإهمال.
«سلمان» الرجل العجوز ما زال معلقاً بالحقبة الناصرية، يحتفظ بقصاصات الصحف القديمة، وما بها من أخبار تتناول منجز «عبدالناصر»، بتذكر يوم وفاته من كل عام، خصوصاً بعدما حدّد فى اليوم ذاته أن يناسب يوم زفافه لكى يخلد معه، ما زال يقص على أولاده القصص نفسها التى استمع إليها من والده عن «عبدالناصر»، ما زال يُكرر عليهم أحاديث الثورة، والصناعة ومصر التى كانت فى عهده.